-
جدلية العلاقات الأمريكية الإيرانية
تضيع الحقائق السياسية في معظم الأحيان بين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي!. وخاصة عندما يتصادمان، وكثيراً ما يحدث التصادم بينهما في العلاقات السياسية المعقدة بين الدول العظمى أو ذات الطموحات الكبرى.
ففي حقبة ما سمي بـ «الحرب الباردة» بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي في القرن الماضي بلغ الصراع أقصاه من الناحية الاستراتيجية، بينما كان هناك كثير من التلاقي التكتيكي بين القطبين الكبيرين في شؤون متعددة. ومن يرقب علاقات القطبين استراتيجياً سيجزم بأن طرفي النزاع أعداء لا يلتقون، لكن الذي ينظر إلى علاقة الدولتين الأعظمين من زوايا تكتيكية فسوف يحكم على العلاقة بينهما بعلاقة العاشق والمعشوق.
الأمر ذاته ينطبق على «جدلية العلاقات الأمريكية الإيرانية»!. فمعظم النخب يتحدثون عن تلك العلاقة بوصفها علاقة قوية متينة تصل إلى حد التآمر بينهما على منطقة «الشرق الأوسط»، وأنهما في تحالف استراتيجي طويل الأمد لا يمكن أن تنفصم عراه حتى تذوب الأمة بأسرها.
تلك النخب واقعة تحت تأثير عدة عوامل جعلها تؤمن بترسخ علاقات الدولتين، أهمها:
♦ وقوع الأمة تحت ضغط «التغول الإيراني» الذي لا يجد من أمريكا رادعاً حقيقيا ً يضع حداً للعربدة الإيرانية في المنطقة.
♦ انصراف أمريكا إلى محاربة «الإرهاب السنّي» كأولوية تحكم سياساتها، وإشراك إيران غالباً في حملاتها المختلفة، وهنا تقع النخب في فخ شديد الخطورة حين ينسبون «الإرهاب القاعدي» للإسلام والمسلمين وبالتالي فإن أمريكا تحارب الأمة الإسلامية بالشراكة مع إيران.
♦ تركيز الإعلام الإيراني على التأكيد أن العلاقات الأمريكية الإيرانية في أحسن أحوالها في كل الظروف، وذلك تجنباً للوقوع في العزلة الدولية، بل لإقناع العرب بأنهم هم المعزولون دولياً!.
أرى أن النخب أخطأت حين اعتقدت أن علاقات إيران بأمريكا هي تحالف حميمي، وبالغت في الخطأ حين لم تقبل مجرد مناقشة هذا الأمر وكأنه صار مع الزمن عقيدة مترسخة في الأذهان. أخطأت لأنها نظرت إلى بعض التقاطعات المصلحية العابرة بين الدولتين والتي غالباً ما تتطوع إيران بخدماتها لكسب رضا الأمريكي الذي تسميه في العلن «الشيطان الأكبر» بينما تقدم نفسها في بعض المناسبات وكأنها الحليف الأكبر.
كان على النخب التي تقرأ السياسة ألا تغض الطرف عن أربعة عقود تميزت فيها علاقات الدولتين بالتوتر وتأزم الثقة!. عانت خلالها إيران من عقوبات اقتصادية ضاغطة وعزلة دولية خانقة، واتهامات متكررة بصناعة الإرهاب ورعايته، والأكثر من ذلك تأكيد أمريكا المستمر على حرمان إيران من تصنيع أو حيازة «السلاح النووي»... فهل يفعل الحليف بحليفه كل هذا؟.
بدأت العلاقات بين إيران والولايات المتحدة عندما بعث «شاه فارس ناصر الدين شاه» أول سفير لفارس المسمى «ميرزا أبو الحسن شيرازي» إلى واشنطن في عام 1856. وفي عام 1883 كان «صمويل بنجامين» أول مبعوث دبلوماسي رسمي للولايات المتحدة إلى إيران، وتم الإعلان عن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين رسمياً في عام 1944.
على الجانب الإيراني ظل التدخل الأمريكي الذي أطاح بحكومة «مصدق» عام 1953، أحد المكونات الرئيسية للذاكرة السياسية للنظام الإيراني الجديد، والذي لم يستبعد قيام الولايات المتحدة الأمريكية في أية لحظة بتكرار ذلك الدور نفسه، وقد كرّس التوجس الإيراني إزاء الولايات المتحدة قيام الأخيرة بدعم العراق عندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، ثم قيامها بالتدخل في 1988، والذي أسفر عن ضرب عدد من المنشآت البترولية الإيرانية.
أما على الجانب الأمريكي فقد جاء غياب الشاه ليكشف ظهر الولايات المتحدة في منطقة الخليج، الأمر الذي جعلها تغير سياستها تجاه العراق نحو مزيد من دعم «النظام البعثي»، كما تجلى في الحرب مع إيران، وظلت واقعة احتجاز الرهائن الأمريكيين- التي أنهت حكم الرئيس كارتر- ماثلة في الذاكرة الأمريكية، ثم جاء دعم إيران لعدد من التنظيمات الإسلامية في لبنان وفلسطين ليضع إيران تحت الرقابة الصارمة على أنشطة إيران المركبة. كما زاد انهيار الإتحاد السوفيتي من التوجس الأمريكي؛ حيث صارت إيران رمزًا لـ «الأصولية الإسلامية» التي رشحتها أمريكا وقتها لتكون العدو الجديد.
وفي 1993 أعلنت الولايات المتحدة سياسة «الاحتواء المزدوج»، التي سعت إلى جعل كل من إيران والعراق أقل قوة منها في المنطقة. لكن طموحات إيران جعلت أمريكا تركز على دعمها للعراق واحتوائه أكثر من احتوائها لإيران، ثم انتهت حرب الخليج الثانية؛ فصار الجديد في تلك السياسة هو السعي لإضعاف الطرفين معاً.
وفي أوج حملة انتخابية رئاسية وتشريعية في أمريكا، كان الرئيس كلينتون قد أصدر في عام 1995 «قانون داماتو» الذي يفرض عقوبات على الشركات الأجنبية التي تتعامل مع كل من «ليبيا وإيران» في مجال النفط والغاز.
تغير قليلاً شكل العلاقات الإيرانية الأمريكية في 1997 على إثر فوز «محمد خاتمي» بأغلبية 70% في الانتخابات الرئاسية الإيرانية، وظل خطاب الولايات المتحدة الأمريكية الرسمي يستخدم مفردات تتهم إيران بكل الشرور، بل وتتناولها بدرجة عالية من الاستهانة والمهانة، فقد كانت الولايات المتحدة تستخدم مثلاً تعبير «السلوك الإيراني» والذي يستخدم للإشارة إلى الخارجين عن القانون، ومن ثَمّ لم يعد من الممكن لأمريكا الرسمية أن تظل تستخدم مثل تلك المفردات، خصوصًا أن الجالية الإيرانية كانت قد بدأت تنظم نفسها بشكل أفضل، وتستقطب عددًا من رموز النخبة السياسية الأمريكية؛ سعيًا لإحداث انفراجة في السياسية الإيرانية، وقد حدث شيء من هذا.
ثم حضرت الضغوط القوية التي مارسها «اللوبي الصهيوني» في واشنطن على إدارة كلينتون والكونغرس؛ لوقف أية محاولة لتحسين العلاقات مع إيران، ولعل من الأمور البالغة الدلالة أن الرئيس كلينتون كان قد أصدر قرارين تنفيذيين يفرضان عقوبات على إيران، وكان حريصاً على الإعلان عن كل منهما في اجتماع له مع إحدى المنظمات اليهودية الكبرى.
مع وقوع «أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001» في الولايات المتحدة، أظهرت بعض الأصوات الإيرانية قلقاً بالغاً من التصريحات الأمريكية التي وردت على لسان الرئيس الأمريكي «جورج بوش» وعدد من أركان إدارته، والتي عدت أن العالم قد غدا الآن منقسماً بين معسكرين: معسكر التحالف ضد الإرهاب، ومعسكر الإرهاب. وبعبارة أخرى من ليس مع أمريكا والتحالف فإنه مع الإرهاب. ومن هنا عمدت إيران إلى التعبير الواضح على أكثر من مستوى عن إدانتها للهجمات على الولايات المتحدة، ورفضها للإرهاب بكل صورة وأشكاله، ففي كلمة لمرشد الثورة خامنئي أمام أهالي أصفهان في 30 أكتوبر 2001 قال: إننا نشجب الإرهاب بكل أشكاله، فقد أدركت طهران أن الولايات المتحدة جادة في تهديداتها، خاصة بالنظر إلى أنها تضع إيران على قائمة الدول المتهمة برعاية الإرهاب الدولي.
وفي حرب الولايات المتحدة في أفغانستان، كانت واشنطن بحاجة إلى مساعدة إيران في المراحل الأولى في حربها في أفغانستان، ولذلك سعت إلى حوار معها بكل الطرق وخاصة على المستوى الأمني، ولقد لعبت بريطانيا دور الوسيط في ذلك من خلال زيارة وزير خارجيتها «جاك سترو» لطهران.
وعلى الرغم من الإدانة الإيرانية للغزو الأمريكي لأفغانستان ورفض إيران الدخول في أي تحالف تقوده أمريكا، فقد قامت إيران بتقديم الدعم الميداني للولايات المتحدة في حربها ضد طالبان وتنظيم القاعدة، وشاركت في الدعم العسكري لقوات التحالف الشمالي حتى سيطرت على كابول.
لكن هذا التقارب سرعان ما تلاشى، في عاصفة الخلافات الأمريكية الإيرانية، سواء فيما يتعلق باستمرار الحظر الاقتصادي الأمريكي الشامل، أو الخلافات الإقليمية، إضافة إلى مواقف إيران تجاه إسرائيل، ودعمها «حركات المقاومة» اللبنانية والفلسطينية، ومما عمّق من هذه الخلافات هو تصنيف جورج بوش في 29 يناير 2002 كلاً من «إيران والعراق وكوريا الشمالية» دولاً إرهابية تهدد السلام العالمي، وأنها تسعي لامتلاك أسلحة دمار شامل وتشكل خطراً تزداد حدته، ووصف الدول الثلاث بأنها «محور الشر» الذي يهدد السلام العالمي.
تعاملت أمريكا مع إيران بلغة صحراوية خشنة، ليس فيها أي مجاملة، خلال ما يقرب من أربعة عقود، وفرضت عليها عزلة سياسية واقتصادية خانقة، لكن الأمور تغيرت نسبياً في عام 2015، تزامناً مع محادثات جادة حول ملف إيران النووي، حيث انهمكت الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة لتطويق طموحات إيران النووية، هناك حدث الغزل السياسي من أمريكا والميوعة السياسية من إيران، لكن هذا كان حالة عارضة ومؤقتة وسرعان ما عادت العلاقات الأمريكية الإيرانية إلى سابق عهدها من تباعد وجفاء.
لا أظن العلاقات «الإيرانية الأمريكية» مرشحة للتحسن وإيران لازالت ترفع شعار «تصدير الثورة» وما رافق الشعار من مخاطر رافقت تنفيذه. ولا زالت حريصة على ممارسة هوايتها بإثارة الاضطرابات وصناعة النزاعات، بلا ضوابط وبلا حدود، بدعمها لكل أشكال العنف الطائفي والإرهاب المنظّم، متمثلاً بحزب الله اللبناني والميليشيات الطائفية العراقية والأفغانية والباكستانية، ودعمها لجماعة الحوثيين اليمنية.
وكذلك ممارسة إيران كل أنواع الفساد المالي والخلقي والمجتمعي، كغسيل الأموال، وتجارة المخدرات، وتجنيد الأطفال في الحروب، ولا تتوقف إيران عند حدودها الداخلية في ذلك، بل تتعداها إلى الدول الأخرى.
وسعيها المحموم لحيازة السلاح النووي لخدمة مشروعها الاستراتيجي بالتوسع والتمدد في المنطقة، وأخذ إسرائيل رهينة أمام الغرب للتخيف من ردات أفعالهم، على اعتبار أن إسرائيل لا تتحمل كثيراً من الضربات النووية!.
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!