الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
تناقضات الدبلوماسيّة الروسيّة
ماهر إسماعيل

رسم التدخل الروسي في سوريا خريطة توازنات القوى في المنطقة، وأعطى موسكو دوراً جديداً إيذاناً بحقبة جديدة تماماً، تلعب فيها روسيا دور قائد وصانع للأحداث والتطورات في المنطقة، وعلى صعيد السياسة الدولية دحضت موسكو بتدخلها الاعتقاد الذي ساد منذ أزمة الخليج الثانية في العام 1990، وضربات الناتو على صريبيا في العام 1999، ثم احتلال الأمريكي للعراق في العام 2003، بأنّ روسيا لم تعد قادرة على حماية حلفائها، أو ممارسة تأثير دولي، وأنّ الولايات المتحدة الأمريكية هي الفاعل الأوحد في الشأن الدولي والإقليمي، وهو الانطباع الذي تأكد مع ضربات الناتو على ليبيا في العام 2011.

جاء الموقف الروسي من الأزمة السورية مغايراً للتوقعات، بل وأبعد مدى من المواقف السوفييتية زمن الحرب الباردة، عندما كانت موسكو تقف بحسم في مواجهة واشنطن لحماية مصالحها ومصالح حلفائها، وانتقل الدور الروسي في المنطقة ودولياً لمستويات غير مسبوقة، حيث فرضت روسيا ذاتها كفاعل رئيسٍ لا يمكن تجاوزه، ليس فقط في القضية السورية، وإنما في الترتيبات الخاصة بالمنطقة عامة، وبدت موسكو تقود التطورات، وتعيد توجيه دفتها، وليس فقط تتفاعل معها، وكشفت الأزمة السورية عن توجه روسي واضح نحو التأسيس لحضور قوي وفاعل في منطقة الشرق الأوسط يتخذ من سوريا منطلقاً له، ويتّسع تدريجياً في شرق المتوسط ليضم حلفاء جدداً.

من هذا الحضور الفاعل في المنطقة ومحاولات الرد على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في الأزمة الأوكرانية، جاءت تصريحات المبعوث الرئاسي الروسي، ألكسندر لافرنتييف، لتصبّ الزيت فوق النار السوري المشتعلة منذ آذار 2011، حيث هاجم مطالب المعارضة السورية، ووفدها الخاص باللجنة الدستورية الذي يطالب ويعمل على دستور سوري جديد، إذ قال في مقابلة مع وكالة تاس الروسية بتاريخ 27/12/2021، إن "إنشاء الدستور السوري الجديد يجب ألا يهدف إلى تغير السلطة في ذلك البلد".

وأكد أنّ "حكومة النظام (السوري) راضية عن الدستور الحالي (دستور العام 2012)، وفي رأيها لا داعي لتعديله، وإذا رأت المعارضة ضرورة في ذلك يمكن النظر في المقترحات التي تهمها وطرحها على التصويت في استفتاء أو الموافقة عليه بأي صيغة أخرى".

وأضاف قائلاً: "إذا سعى شخص ما إلى هدف وضع دستور جديد من أجل دستور جديد من أجل صلاحيات الرئيس، وبالتالي محاولة تغيير السلطة في دمشق، فإن هذا الطريق لا يؤدي إلى شيء".

إنّ تصريحات المبعوث الرئاسي الروسي تعكس مدى التوتر الذي تعاني منه الرئاسة الروسية من الموقف المتطور لإدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، الذي يقف ضد التطبيع مع النظام السوري، ومحاولات محاسبة النظام السوري في ملف الكيماوي السوري، والفساد في سوريا من خلال الكشف عن مصادر ثروة بشار الأسد، وتجارة المخدرات (الكابتيكون) التي أصبحت شبه مكشوفة أمام الرأي العام الأمريكي والكونغرس، وأمام المجتمع الدولي، بأن النظام السوري وحلفاءه وراء تهريبها إلى الدول العربية وبعض دول العالم.

هذه التصريحات استدعت تدخل الخارجية الروسية عبر نائب وزير الخارجية، ميخائيل بوغدانوف، في حديث يوم الثلاثاء 28/121/2021، أمام وفد من المجتمع المدني السوري، إذ ذكر بيان وزارة الخارجية أنّ الجانب الروسي يؤكد "تمسكه بضرورة تحقيق التسوية الشاملة في سوريا على أساس قرار 2254 لمجلس الأمن الدولي، في ظلّ احترام سيادة سوريا ووحدتها وسلامتها الإقليمية".

وأضاف البيان، أن بوغدانوف ركز على أهمية تضافر الجهود الرامية إلى الدفع المستمر بالعملية السياسية التي يقودها ويحققها السوريون، بما في ذلك أنشطة اللجنة الدستورية في جنيف، و"صيغة أستانا" و"غيرها من ساحات الحوار السوري - السوري متعدد الطوابق".

إن تصريحات لافرنتييف خارج سياق الدبلوماسية الروسية التي شاركت في القرار الأممي 2254، وخارج العملية الدستورية التي تشارك بها روسيا منذ طرح السلة الدستورية في "سوتشي الروسية" ومؤتمرها الخاص الذي قدم السلة الدستورية على سلة الحكم الانتقالي الذي تعمل عليه المعارضة السورية، ولا تقف عند حدود السلة الدستورية التي لم تجد طريقاً للتقدم بسبب تعنّت وفد النظام وداعميه الروس والإيرانيين.

إن التناقض في المواقف الروسية بين المبعوث الرئاسي ونائب وزير الخارجية يضع المعارضة السورية وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية أمام ازدواجية المواقف بين الرئاسة والخارجية، وهذا التناقض يقدم مؤشرات سلبية وغير إيجابية عن تذبذب الموقف الروسي، ويساعد النظام ووفده للجنة الدستورية على مزيد من التعنّت وعدم التقدّم في العملية الدستورية والتفاوضية.

إن التصريحات التي أدلى بها لافرنتييف توضح مدى تصاعد دور روسيا إقليمياً ودولياً، ولا سيما في سوريا والشرق الأوسط في ضوء مجموعة من العوامل منها الحسابات الاستراتيجية المتعلقة بالمنافسة الدولية، والتأكيد على مكانة روسيا كقوة كبرى قادرة على حماية مصالحها، فتصاعد المكانة الروسي في أحد أبعاده السياسية يهدف إلى تأكيد مكانتها كقوة كبرى فاعلة، وكسر حلقات التطويق والضغوط  الأمريكية، خاصة تلك المتعلقة بالعقوبات التي يتم تجديدها وتوسيعها من جانب واشنطن وحلفائها في أوروبا وآسيا منذ آذار في العام 2014، وتطور الموقف فيما يخصّ الحضور الروسي في أوكرانيا من قبل إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، إذ يأتي الرد الروسي على الموقف الأمريكي الأوربي في سوريا عبر تأكيد دعم الرئاسة الروسية لبشار الأسد بشكل مباشر لا لبس فيه، وهذا يدخل في إطار المناكفة، قبل الجلوس إلى طاولة مفاوضات بين الجانبين عبر الخبراء من كلاهما.

لكن على ما يبدو أن لافرنتييف لم يتوقع ردة الفعل وتطور موقف المعارضة، حيث طرحت هيئة التفاوض مذكرة ترسل إلى الأمين العام للأمم المتحدة بعد التوقيع عليها تعبر عن لا مسؤولية تصريحات لافرنتييف، والتدخل الروسي المباشر في العملية التفاوضية السياسية السورية من خلال هذه التصريحات التي تضر بعمل اللجنة الدستورية، وتصادر نتائجها المباشرة وغير المباشرة، مما يتطلب موقفاً واضحاً من الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الدولي، غير بيدرسن، ضد هذا التدخل الفج الوقح الذي يعبر عن انحياز واضح للديكتاتورية السورية ضد مطالب الشعب السوري من خلال المعارضة ووفدها الدستوري.

فالمذكرة تدين التدخل الروسي من خلال تصريحات لافرنتييف، وتعد موقفه "نسفاً لمضامين قرارات مجلس الأمن الخاصة بالمسألة السورية، وتحدياً لإرادة الشعب الذي ضحى على مدار أكثر من عشر سنوات بكل ما يملك من أجل الخلاص من النظام الديكتاتوري، وبناء نظام سياسي وطني ديمقراطي جديد".

وتطالب المذكرة مقاطعة جلسات اللجنة الدستورية أو الانسحاب منها، وهذا ما يحقق هدف الرئاسة الروسية من خلال عملية دفن اللجنة الدستورية.

إنّ عملية المقاطعة غير مجدية وغير مفيدة، فالأجدى بقوى المعارضة السورية وهيئة التفاوض الضغط على مجلس الأمن الدولي، والدول الراعية لفتح سلال تفاوضية جديدة تفتح العملية السياسية التفاوضية من بواباتها العريضة نحو إيجاد حل سياسي عادل ينصف الشعب السوري عبر مطالبة في الحرية والعدالة، وإنهاء نظام الفساد والاستبداد، ويضمن حق تقرير المصير لهذا الشعب المنكوب بالديكتاتورية السورية منذ سبعينيات القرن الفائت، ويضمن عودة اللاجئين الطوعية والاختيارية لكل إنسان سوري خرج من بيته نحو بلدان آمنه من الموت والدمار والاعتقال.

ويطالب مجلس الأمن والدول الراعية بضرورة الكشف عن مصير مئات الآلاف من المعتقلين في أقبية الديكتاتورية السورية، واعتبار هذا الملف ليس بموضع مع النظام وداعميه.

أخيراً.. إن الدبلوماسية الروسية يجب أن تنحاز إلى ما أوجدته وما عملت عليه خلال سنوات عبر المسار الدستوري وبقية السلال التي أوجدتها مع المبعوث الأممي السابق ديمستورا في السلال الأربعة، وما تعمل عليه في هذه المرحلة مع المبعوث الأممي الحالي بيدرسن، وليس العودة إلى تعميد الديكتاتورية من جديد نكاية بالولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية حفاظاً على مصالحها فقط، ومصالح النظام السوري في دمشق.

ليفانت - ماهر إسماعيل

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!