الوضع المظلم
السبت ٢٧ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
تدوير الفساد: عمليات تجميل الطاغية الفاشلة
عبير نصر

دعونا نتذكر.. الإسكندر كان طاغية، لا ريب في ذلك، ولكنه صنع مجد الإغريق ورفع من شأن الفكر والحكمة والفلسفة، وكان ستالين بدوره طاغية ولكنه بنى مجداً لروسيا وأسس لحضارتها وقوتها ورسخ أمجادها، وهتلر أيضاً كان طاغية متطرفاً، ولكنه أراد أن يجعل ألمانيا القطب الأوحد في العالم، سياسة وفكراً ومجداً وقوة، وكان نابليون، بالتأكيد، طاغية ولكن بنى مجد فرنسا وسطّر لها انتصاراتها الخالدة حتى اللحظة..إلخ.

وهنا لا بدّ لنا من طرح البديهية التالية: ماذا قدم نظام الأسد لسوريا عبر خمسة عقود، وهو أبرز الطغاة شهرة وشراسة في العالم العربي، غير تحويل البلاد إلى أكثر بلدان العالم شيوعاً للفساد، وإيصال عمليات الإفساد المنهج  إلى التعميم الشامل في كلّ مؤسسات ودوائر الدولة، عبر نمو مافيا أخطبوطية نهمة نهبت المال العام، وجمعت الثروات الطائلة بالوسائل غير المشروعة، وكرّست الإفقار المعمم؟ وأيّ مجد صنعه باستثناء "مجد العائلة" مقابل تحويل الشعب السوري إلى قطيع مسحوق ومستباح في مزرعة شخصية؟ وفي الحقيقة ليس من فراغ أنّ السوري اليوم حين يبحث عن تعريفٍ لنفسه أو عن هويته، يميل إلى التاريخ القديم، يعود إلى دمشق أقدم عاصمة في التاريخ، وإلى شعب اخترع الأبجدية والنوتة الموسيقية الأولى، كما يستشهد بأقوال أهم الآثاريين بأنّ سوريا الوطن الثاني لكل إنسان مهما كان وطنه الأم، وفي ذلك مفارقة ومصادرة للتاريخ، لأن الأمجاد السورية القديمة لا تخص "سوريا الأسد" التي يحكمها نظام مستبد لا يعرف لغة التنازل، ولا يقبل التفاوض على بعضٍ  من سلطاته. على هذا يمكننا الإقرار بأنّ أعظم إنجازات "نظام الأسد" أنه لم يعد هناك وطن، بعدما تحول إلى مجرد كلمة في بطاقة الهوية، أو مفردة باهتة في جواز السفر. ولا شك سعي النظام المستمر لتحطيم منظومة القيم العامة، وإضعاف الإحساس بالمواطنة والانتماء، يساعد في فهم ما آلت إليه الأوضاع في سوريا، فالانهيار الأخلاقي العام، جعل الفساد والتشرذم في المجتمع السوري يصل إلى مستوياتٍ مرعبة على صعيد الانتشار والنوعية.

 ورغم أنّ العام 2019 تميّز بحملات مكثفة لمكافحة الفساد، فإن الأمر لم يعنِ شيئاً للمواطن السوري العادي، الذي راح يتابع الأخبار بحيادٍ تام. وأيّ  أمل يُرتجى في بلد ليس فيه أية شفافية منذ عشرات السنين؟ بحكم عدم وجود مؤسسات مدنية وسياسية فاعلة، وغياب إعلام حقيقي، في وقت اكتسبت فيه العائلة الحاكمة الفاسدة، شيئاً فشيئاً، صفات إلهية من مثل "كلية المعرفة" و"كلية القدرة" و"كلية الوجود". عموماً اتخذت حملات مكافحة الفساد طابعاً انتقائياً، تمارسها السلطة السياسية بين الفينة والأخرى، بغرض تلميع وجهها لا أكثر، وإظهار نفسها بمظهر الطهارة والعفة، لتبرئة ساحتها من الفساد الذي فاق كل المعدلات العالمية، خاصة وأنّ المنظمات الدولية تُدرج سوريا، حتى قبل عام 2011، في المراتب الأولى للفساد الإداري عالمياً، كما أصدرت مؤسسة "هيريتدرج فاوندايشن" تقرير مؤشر الحرية الاقتصادية لسنة 2021، الذي يعتمد على قياس الحرية الاقتصادية من خلال قواعد القانون، وتشمل حقوق الملكية والفاعلية القضائية، والنزاهة الحكومية، وجاءت سوريا خارج التصنيف تماماً، وذلك بسبب نقص البيانات والحروب كما قال التقرير. ويبدو أنّ حملة 2019، وهي أشهر حملات "تدوير الفساد" خلال حكم الأسدين، يقف خلفها بشار الأسد وزوجته بدفعٍ روسي، والهدف منها التخفيف من حدّة احتقان الشارع الموالي على سوء الأوضاع الاقتصادية، وتلميع صورة النظام، كذلك تحصيل أموال من شأنها المساعدة على تدارك تهاوي الاقتصاد. وكان أول ضحايا هذه الحملة وزير التربية في حكومة النظام هزوان الوز وزوجته، بدعوى اختلاس أموالٍ عامة، ثمّ توسّعت الحملة لاحقاً لتشمل التدقيق في حسابات عددٍ من الشركات المملوكة لرامي مخلوف، أبرزها شركة اتصالات سيرياتيل، ووصل الأمر إلى حدّ الحجز على أموال الأخير، إضافة إلى أيمن جابر وعدد من المرتبطين بهما، بعد أيام من إجراءٍ مماثل استهدف طريف الأخرس، قريب أسماء الأسد. ويشير موقع الاقتصادي إلى أنّ وزارة المالية أصدرت عام 2019، ما يعادل (538) قراراً بالحجز الاحتياطي على أموال (10315) شخصاً اتهموا بالفساد والإفساد.

في هذا السياق نتساءل: ماذا قدمت هذه الحملات المكوكية للشعب السوري؟ طبعاً لا شيء يذكر، فما زال رأسُ النظام السوري غنياً بينما الدولة تزداد فقراً، وهي لا شك ازدواجية ثابتة في مختلف الأنظمة الدكتاتورية. وثمّة من يقول ليست صحيحة قصة اللوحة التي اشتراها بشار لزوجته أسماء، بمبلغ ثلاثين مليون دولار، لكنها كانت إشارة روسية صريحة ومباشرة تفيد بأن موسكو تراقب الآن الإنفاق الشخصي للأسد، وكأن الحرب ونفقاتها الباهظة لم تعلّمه التقشف، ولم تفرض على عائلته تجنّب التباهي بالثروة، لاسيما في ظلّ الحاجة الملحة إلى تخصيص المزيد من الموارد، لسداد الديون وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، تماماً كما تراقبه واشنطن، حيث لم تمضِ  ساعات قليلة على إصدار الأخيرة عقوبات جديدة ضد ضباط للنظام السوري، حتّى أقر مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون للكشف عن ثروة بشار الأسد، وعائلته، والدائرة المقربة منه، ومن المقرر أن يُرفع القانون إلى مجلس الشيوخ للتصويت عليه. ونشر موقع الكونغرس الأمريكي، الأربعاء 8 كانون الأول/ ديسمبر، نصّ  التعديل لمشروع قانون يطلب بموجبه من الوكالات الفيدرالية تقريراً مفصلاً، للكشف عن صافي ثروة الأسد وأفراد أسرته، بما في ذلك الزوجة والأطفال والأشقاء، كذلك أبناء عمومتهم من الأب والأم. وأكد التعديل على ضرورة الإفصاح عن الدخل من الأنشطة الفاسدة، أو غير المشروعة التي يمارسها النظام السوري، والتنسيق لتطبيق عقوبات على بشار الأسد، ومراقبة الفساد المستشري، لضمان عدم توجيه الأموال إلى الجماعات الإرهابية والأنشطة الخبيثة.

وليس مبالغة على الإطلاق الجزم بأن الفساد، وهو أعظم إنجازات الطاغية السوري، لم يأتِ عفوياً بالطبع، أو في سياقات طبيعية، بل كان مقصوداً، وجزءاً من تركيبة نظام ظلّ همه الرئيس التأبيد في الحكم، وتحويل السوريين إلى عبيد تسيطر عليهم فئات مافيوية، هي جزء من منظومة مدعومة ومحمية. فساد تعزز مع شيوع الاستبداد السياسي، وضعف المحاسبة، والوضع الاقتصادي الضاغط على الجميع، وتشكل طبقة من الموظفين الفاسدين الأثرياء. ومع مرور الزمن لم يعد الفساد عيباً أو جرماً أخلاقياً، بل تحول إلى ظاهرة مقبولة في المجتمع السوري، وبدلاً من النظر إلى الأشخاص الفاسدين على أنهم لصوص وطفيليات، أصبحت النظرة إليهم على أنهم أشخاص مارسوا سلوكاً طبيعياً شائعاً، وحصلوا ثروة كبيرة من دون محاسبة أو تقريع، لا بل إن البعض ينظر إليهم نظرة إيجابية، ويتمنى لو تتاح له الفرصة ويصبح موظفا فاسداً مثلهم. ولا يغيب على أحد أنّ نظام الأسد يعي تماماً خطورة حملات مكافحة الفساد وصعوبة تنفيذها، لأنها ستطال حكماً الأوساط التي تمثل الحاضنة الأقوى له، فاستعاض عنها باستراتيجية تحويل المجتمع من مجتمع متماسك إلى مجتمع ممسوك، عبر تحريك ماكينات الفساد في كلّ مكان، لينصاع الشعب السوري إلى سلطة مركزية تستمد شرعيتها من قوتها وإفسادها، وليس من آلية محددة تنتج الشرعية السياسية، ذلك أن مثل هذه الآلية لا وجود لها في سوريا أبداً.

ليفانت - عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!