الوضع المظلم
السبت ٠٤ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • اليوم قُتِل فرج فودة في ذكرى اغتياله الثامنة والعشرين

اليوم قُتِل فرج فودة في ذكرى اغتياله الثامنة والعشرين
فرج فودة

كانت مصر في الثمانينيات في عهد الرئيس حسني مبارك تشهد صراعاً بين التيارين الديني والعلماني على ما ينبغي عليه أن يكون شكل الحكم فيها. أسس لهذا المناخ ما جرى في بداية السبعينيات في عهد الرئيس السادات من مصالحة مع الأصولية الدينية، من الجماعة الإسلامية والإخوان المسلمين، فأفرج عن معتقليهم، بينما اتسمت سياسته الاقتصادية بانسحاب قطاع الدولة من كثير من المشاريع، فاستغل الإسلاميون الفرصة، ووظفوا أموالهم باستثمارات عديدة، مثل المستشفيات والمطابع ووسائل النقل والمدارس.


 أصبحت الصبغة العامة إسلامية إلى حد كبير، في السلوك الاجتماعي والاقتصادي واللباس ونمط الأفلام والموسيقا، وبدأت تُنشر في مجلاتهم وصحفهم مقالات تُحرم نوادي السهر والرقص، وآراء فقيهة ترفض التعامل بنظام البنوك القائم على الفائدة التي يسمونها الربا، وتدعو إلى ضرورة أن يُعاقب تاجر الهيروين بـ 60 جلدة، وأن تَعنُت مجلس الشعب في تطبيق القوانين الوضعية بدلاً من الشريعة الإسلامية، يُبيح الزنا وغيره من المُنكرات، فأصبحوا بذلك يستعيدون مواقعهم التي فقدوا جزءاً كبيراً منها أيام الرئيس جمال عبد الناصر.


عاشت مصر في تلك الفترة شروخاً داخلية على صعيد الأمن والتعايش الطائفي بسبب التطرف الذي عادت الجماعات الإسلامية إلى ممارسته في محافظات عديدة. في حين اقتصر دور المؤسسات في عهد حسني مبارك على الجانب الأمني فقط لمواجهة حوادث التفجير والعنف، من دون العمل على مواجهة مضادة للجانب الفكري. اغتيل سياسيون، وتعرض السياح الأجانب لكثير من التفجيرات. سُرِقت الكنائس وبيوت الأقباط وأماكن عملهم، وعانوا من الاعتداء. كان من أبرزها ما حدث في محافظة المينا، وفيها أكبر نسبة من المسيحيين الأقباط، ومعقل التطرف الإسلامي في الوقت نفسه. سرى فيها آنذاك إشاعة مفادها أن مخططاً "صليبياً" يستهدف الفتيات المسلمات لتشغيلهن في الدعارة، فثار الأهالي من المسلمين بتحريض من الجماعات المتشددة، واعتدوا على الأقباط بالحرق والقتل.


 


بين العقل والسيف


على الجهة المقابلة، كان رواد الفكر العَلماني من كُتاب ومفكرين يشعرون بخطر تفتت دولتهم، وعزلها عن المسار الحضاري، في حال تمكن الإسلاميون من إحلال الدولة الدينية. منهم من رفض ربط الإسلام بالتطرف، ونادوا بفصله عن السياسة حفاظاً على معانيه وقيّمه الروحية. اصطدموا بالمنظومة العامة التي فرضوها في المجتمع المصري. حاولوا إظهار صورة مغايرة للمسلمين، بعيدة عن العنف والدماء، تنادي بالعدالة والحرية للإنسان، فاتُهموا بالكفر، وإفساد الدين.


كان الكاتب فرج فودة أحدهم، وهو من مواليد محافظة دمياط عام 1945، وحاصل على دكتوراه الفلسفة في الاقتصاد الزراعي. اقتحم ساحتهم الخاصة، وتحدث بأمور يعتبرها أصحاب التيار الديني حكراً عليهم. ناقشهم بالخلافة، والحجاب، واستباحة أرواح غير المسلمين، والتشريع بين الاختيار الديني والمدني. بنى حواره معهم على أساس الفكر، وعلى أفكار مغايرة من صُلب العقيدة الإسلامية.


شهدت أفكاره تبدلات كثيرة كان سببها الواقع السياسي والاجتماعي. تحول من كونه ناصري الهوى والميول، مؤمناً بسياسة عبد الناصر، إلى شخص فاقد الثقة بأفكار العرب القومية بعد الهزيمة التي لحقت بهم في حرب حزيران 1967. شارك في المظاهرات الطلابية التي تلت الحرب للتنديد بنظام الحكم العسكري الخانق للحريات، والمسؤول عن الهزيمة.


يروي الكاتب الصحفي المصري هشام يحيى لموقع ليفانت نيوز عن بعض سمات فرج فودة الشخصية. "قبل ولوجه إلى عالم الفكر والكتابة، كان يجيد كتابة شعر الزجل، وكانت إحدى أمنياته أن يلتقي بأم كلثوم، ويقدم لها أغنية من كلماته. أحبه الرئيس حسني مبارك ودعمه. كما أنه تميز بميله إلى الاستعراض، وقدرته على فبركة الشائعات حوله، ليوقع بها خصومه الإسلاميين".


لُقب بزعيم العَلمانيين في مصر. دافع عن كُتّاب صودرت مؤلفاتهم، وسُجنوا. كان رده في محاكمة الكاتب علاء حامد، مؤلف رواية "مسافة في عقل رجل" التي جاء في مقدمتها، "من أنا؟ مسلم في الميراث، لو وُلدت من صلب مُلحد، لأصبحتُ مثله"، تمثيلاً لقناعته بصدّ الكهنوت الديني، وتَعَديه على الحريات.


أعلن حربه الفكرية على الإسلاميين، رغم معرفته بما ستؤول إليه النتائج. طرح أفكاره في الندوات والمناظرات داخل مصر وخارجها. وتميزت كتبه ومقالاته بأسلوب سردي واضح ومباشر، وبمفردات جريئة وساخرة، فكسب سمة الوصول إلى جماهير واسعة.


بالنسبة إليه أن المسلمين تقدموا في عهد الخليفة العباسي المأمون لأنهم عملوا على "ترجمة الكتب، ولم ينكروا الحضارة الغربية، كما ينكرها العالم الإسلامي اليوم"، ولم يأتِ تطورهم بشعار الإسلام هو الحل. وأنهم تسلموا الخلافة الإسلامية في عهد العثمانيين وهم "في أدنى درجات التخلف، وفي أسوأ مستوى حضاري ممكن"، فهذا ما يمكن وصفه بمحصلة الخلافة، على اعتبار أن ثمة فرق بين الإسلام الدين والإسلام الدولة، وبين "جوهر الإسلام وتطبيقات المسلمين".


قال عن الإسلاميين: "سيصرخون ضد الغناء، وسيغني الشعب. سيصرخون ضد الموسيقى، وسيطرب الشعب. سيصرخون ويصرخون، وسيملؤون الدنيا صُراخاً. وستنفجر قنابلهم، وستُفَرقِع رصاصاتهم. وسيكونون في النهاية ضحايا كل ما يفعلون".


أسباب الاغتيال


على الرغم من تأكيد مشايخ الأزهر على عدم صحة ما قيل عن إصدار بيان رسمي من قِبَلهم يجيز قتل فرج فودة، إلا أن ما أُعلن من تصريحات في جلسات محاكمة منفذي الجريمة، أدلى ببعض منها محمد مزروعة الذي استُجوب كشاهد رئيسي، وكان حينها رئيس قسم العقائد والأديان بكلية أصول الدين في جامعة الأزهر، يبين أن هذا التيار لم يكن ينتظر فتوى رسمية لتنفيذ حكم الردة لكونه يتولى مناصب إدارية في مؤسسة الأزهر الدينية. جاء في شهادة مزروعة، "فرج فودة مرتد، ويجب على آحاد الأمة تنفيذ حد الردة في القاتل، إذا لم يقم ولي الأمر بتنفيذ ذلك".


تعددت الروايات عن الأسباب التي أدت إلى إعطاء الأمر بقتله. قيل إن كتاب "الحقيقة الغائبة" الصادر عام 1984 هو ما قاده إلى حتفه. ردّ فيه على ما كتبه محمد عبد السلام فرج، أحد قتلة الرئيس أنور السادات، في كتابه "الجهاد الفريضة الغائبة"، الذي ذكر فيه أن "طواغيت هذه الأرض لن تزول إلا بقوة السيف. وأن إقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة، قد بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا فضلاً عن كونها أمر من أوامر المولى جل وعلا".


ناقش فودة في "الحقيقة الغائبة" أنه ما مانع يمنع مفكر من الاقتراب من عهد المسلمين الذي بدأ بعد وفاة النبي محمد، وتخليص عهد الخلافة الراشدة وما تلاها من عهود من صفة التقديس. فالخلفاء أياً كانوا هم بشر لا أنبياء، لهم من السيئات ما ارتكبوه، ومن الحسنات ما فعلوه. وأن فقه ابن حنبل والشافعي وأبو حنيفة وأنس بن مالك لا يحمل إجابة عن المتغيرات المتسارعة في العالم الجديد. وأكد على أن مبادئ الشريعة لن تقود إلى خلل في الدولة، بل تطبيق اجتهاد القرن الثاني الهجري في وقتنا هذا.


تذكر آراء أخرى أن ما جاء في كتابه "الملعوب.. قصة توظيف شركات الأموال" الذي طُبع عام 1988 هو ما دفع بالإسلاميين إلى اغتياله. كشف الكتاب عن ارتكازهم إلى منظومة اقتصادية، تستند إلى المتاجرة بالعملة عبر شركات توظيف الأموال. ساهم القيادي الإخواني أحمد عبيد في تأسيس واحدة من كبريات تلك الشركات. كان الإخوان قد تنبهوا منذ نشأتهم عام 1928 إلى أهمية إيجاد حل لمشكلة التمويل، بهدف نمو تنظيمهم لاستعادة الخلافة المفقودة، وهو ما أكد عليه المؤسس، حسن البنا، في أركان بيعته العشرة.


أما المناظرة الأخيرة التي عُقِدَت، في كانون الثاني/يناير 1992، قبل أشهر قليلة من اغتياله، وكانت ضمن فعاليات معرض القاهرة للكتاب. جمعت بين الدكتور فودة والدكتور محمد خلف الله من الجانب العَلماني، ومحمد الهضيبي المتحدث الرسمي للإخوان المسلمين والشيخ محمد الغزالي والدكتور محمد عمارة من الجانب الإسلامي. وحملت عنوان "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية".


كانت ردود فودة على مداخلة نظرائه الإسلاميين متماسكة، فاقت بجرأتها قدرتهم على الاحتمال. عندما أصروا على أن مرجعية الدولة هي الشريعة الإسلامية وحاكمية السماء لها، أجابهم: " الفضل للدولة المدنية أنها سمحت لكم أن تناظرونا هنا، ثم تخرجون ورؤوسكم فوق أعناقكم".  


نشرت وزارة الثقافة المصرية في الـ 22 من أيار/ مايو الماضي على حسابها على موقع يوتيوب المناظرة لأول مرة منذ 28 عاماً، بالتزامن مع موجة من الانتقادات طالت تدوينة للممثل "أحمد الرافعي" الذي أدى دور مفتي التكفيريين في مسلسل "الاختيار" في رمضان الفائت، وصف فيها رحيل فودة بـ "ذكرى نفوق فرج فودة".  


النهاية


بعد انتهاء المناظرة التي امتدت لساعتين، أمام آلاف من الحضور المؤيد للفكر الديني، هاجمت صحف الجماعات الإسلامية فرج فودة، وارتفعت معها وتيرة ردوده. سطّر عباراته الأخيرة، قبل اغتياله بيومين، في مقال بعنوان "اللهم لا حسد"، كتب فيه، "الجماعات الظلامية لها من المشكلة الجنسية نصيب، ولها أيضاً غطاؤها الديني نتيجة تفسيرات صبيانية، إلا أن الجنس لديها يلعب دوراً مؤثراً في التفكير والسلوك. حرّمت الجماعات أكل الكوسة والباذنجان، وحجة الجماعة أن الكوسة يتم حشوها، وكذلك الباذنجان، وفي الحشو إيحاء جنسي، هكذا زعم الصبيان".


كُفرت أفكار فرج فودة العلمانية، بحسب الكاتب الصحافي هشام يحيى، "من الشيخ محمد الغزالي على شاشة التلفزيون المصري، في برنامج حديث الروح الذي كان يبث قبل موعد نشرة الأخبار الرئيسية. وذكر أحد القاتِلَين في المحاكمة أنه استند إلى كلام الشيخ الغزالي في تنفيذ الاغتيال".


 في ظهيرة الثامن من حزيران/يونيو 1992، كان المفكر الليبرالي على موعد مع النهاية المشؤومة. فقُتل برصاص شبان الجماعة. أُعدم اثنان منهم، وحُكم على منسق العملية، أبو العلا عبد ربه، بالسجن المؤبد. أُفرج عنه عام 2012 بمرسوم عفو رئاسي أيام الرئيس محمد مرسي. ثم غادر إلى سوريا ليُقاتل إلى جانب تنظيم داعش، وقُتل هناك بإحدى الغارات الروسية.


في كتابه "قبض الريح" الصادر عام 2013، يشير الصحافي يحيى إلى ضلوع النظام أيضاً في حادثة الاغتيال، ويذكر حواراً دار بينه وبين شقيقة فوده بعد رحيله، "لمحتْ فيه إلى أن تورط وزارة الداخلية في الاغتيال ليس مُستبعداً"، وذلك بعد الإعلان عن المصالحة مع الجماعات الإسلامية التي تبناها وزير الداخلية حينها، وهو ما اعتُبر تخلياً من جانب النظام المصري عن فرج فودة.  


دُفن جثمان المفكر الراحل في إحدى مقابر القاهرة بعد أن رفض أهالي بلدته دفنه فيها متهمينه بالكُفر. كانت آخر كلماته التي نقلها رأفت وحيد، المُريد الذي أُصيب برصاصة في قدمه أثناء الاغتيال، "اشهدي يا مصر إني مُت على شانك".


ميرنا الرشيد: صحافية سورية

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!