الوضع المظلم
الخميس ٠٢ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • الموت برفقة بندر عبد الحميد.. مع اقتراب ذكرى رحيله الأولى

الموت برفقة بندر عبد الحميد.. مع اقتراب ذكرى رحيله الأولى
ميرنا الرشيد

عرفتُه منذ حوالي عشر سنوات. جمعتْ معرفتنا بين جيلين من فترتين زمنيتين مختلفتين. هو من جيل الأربعينيات، وأنا من جيل الثمانينيات. هو من جيلٍ حمل مشروعاً لنهضة الإنسان في سوريا، وأنا من جيل الصمت والانهزام. الفارق هنا ليس زمنياً، ولا فكرياً. مع بندر عبد الحميد تختفي الفوارق على الإطلاق، وتذوب في النقاشات والسهرات والضحكات. ما زلتُ أحتفظ بانطباعات الاتصال الأول واللقاء الأول بيننا.

في أيلول 2011 بدأتِ الحكاية. اتفقنا أن نلتقي عند محل (هاواي) للمشروبات الكحولية في شارع الباكستان بدمشق. دخلتُ من الباب الخشبي ذي الطراز القديم، باب ضيق يدخل منه الزائرون مواربة، يُفضي إلى مساحة مِترية صغيرة اتّسعت لقصص العاشقين والعاشقات، وإنجازاتٍ في الثقافة والأدب والفكر، هذه المساحة ليست إلا شقته في أحد تفرعات شارع العابد، معبد الحب والسينما والحرية، فيها تبدّد الخوف بداخلي، وخلعتُ القيود بهدوء الساخرة من تقاليد فكرية ومجتمعية، فيها شعرتُ بالسلام، وهدأتْ رعشة أطرافي الهاربة من الحرب، وأيقنتُ أنّ عبيره المنثور فوق الكُتب وزجاجات الكحول لا يمكن لأحد أن يفوّته. في شباط 2020 رافقتُه في ختام حياته الأرضية.

 

 

بندر عبد الحميد

 

 

كانت سوريا في بداية معرفتنا تُكمل المسير نحو حتفها. الآن في ذكرى رحيله الأولى، أنهتِ المسير، وغاصتْ في الطين والجحيم. لن أحكي في هذه السطور عن بابه المفتوح، وشِعره، وسلسلة الفن السابع، وعن أطباق الخضراوات والدجاج بالسمن البلدي، وقصاصات ممثلي وممثلات السينما تحت زجاج طاولته المستديرة، لقد كُتب عن ذلك أكثر مما يجب. سأحكي كيف فهم الموت بقناعة وبساطة.

 

كُل مَن عرف بندر عبد الحميد، خبّأ في ذاكرته حكايةً عن لقاء جمعه بممدوح عدوان أو شوقي بغدادي أو جبر علوان، وآخرين كثر من هذا الفضاء. كُل من عرفه، لمس كم كان حُرّاً من الداخل والخارج، وكما كان عقلانياً في فهم الموت. لقد عرف أنّ الحياة لا تكتمل إلا بالموت، فآثر ألا يترك الأرض بغير أثر.  

 

تتغلغل السطور القادمة في الموت، بعيداً عن رعب الأفكار الدينية في تصويره، وعن عذاب القبر والاحتراق بلهيب جهنم، وعن تلك الخرافة التي تقول إنّ ذِكر الموت يجلِبُه. إنّ تجسيده بهذه الاعتباطية، جعل الناس يهربون من التصالح مع أكثر حقيقة حتمية ينبغي إدراكها. كان (أبو الطيب) ممن فهموا ميزان هذه الحقيقة. عاش وفقها بإخلاصٍ ورضا.

مات حوله كثيرون من أقارب وأصدقاء. لا أذكر أنّني رأيته في حزن شديد كالذي نعهده في الجنازات والعزاءات. طفولته البرية في قرية تل صفوك بالحسكة، حيث يمر من شمالها نهر الخابور، أفهمَتْه المعادلة باكراً؛ أنّه من الطبيعة وإلى الطبيعة يعود، فقضى أيامه سعيداً متناغماً مع نفسه ومع الكون.

 

"يترك الموت فجوة في نفوس الأحياء. بكاؤهم على المتوفى ليس لأنّ حياته غادرتهم، بل لأنّهم خسروا شخصاً كانوا يملكونه في حياتهم“. جعلتني العبارات السابقة للحكيم الهندي (سادغورو) أستخلص أنّ الحزن إذاً ليس بشأن حياة ماتت، بل لأنّ الأحياء يخسرون مساحة كانوا يتشاركونها مع الميت، ويشعرون بالفراغ في غيابه. لقد هندس البشر أفكارهم ومشاعرهم بطريقة لا تتناغم مع الحياة، قدرها أن تنكسر في مرحلة ما، إما أنّها ستتحطم بموتهم، أو بموت شخص آخر عزيز عليهم.

 

أدرك (أبو الطيب) أنّ الحياة تتطلب العيش حسب تيارها وليس عكسه. خفف عنه عبء الارتباط الشعوري والذهني، فحلّق في مداره، تاركاً لغيره حرية التحليق في مداراتهم. الحياة والموت لديه ليسا منفصلين، إنّهما حاضران في الوقت نفسه، أحدهما داخل الآخر، لذلك أوصانا ألا نحزن على غيابه.

 

في الثامن عشر من شهر شباط الماضي، رأيتُه ممدداً في غرفة تغسيل الموتى في مستشفى المجتهد بدمشق. كانت ملابسه مرميةً على الأرض، وجسده ملفوف بشاش أبيض. وقفتُ إلى يساره، وانتظرتُ أن يتورّدَ وجهُه الأصفر، وأن تختفي علامة الرضّ الأزرق، وأن ينهض من السرير لنذهب معاً، ونشتري لوزاً ورماناً وسكراً. لم يتحقق أيٌّ مما تمنيتُه. كانت أنفاسُه قد توقفت في يومٍ سابق.

 

الآن بندر عبد الحميد ميت. حاولتُ كتمان دموعي، ولم أستطع. بدت ابنتُه الواقفة قبالتي أكثر صلابةً مني. خرجتُ مسرعةً إلى مدخل المستشفى. تواريتُ في زاويةٍ بعيدةٍ عن الأعين. شهقتُ من أعماقي. عرفتُ حينها أنّ خسارتَه هائلة، وأنّي لا أستطيع احتمالها. حينها لم أكن قد تمعنتُ في فهمه للموت. هزّني رحيله، وبدأتُ أستعيده ما استطعتْ.

 

يقول سادغورو: ”حالما يُدفن الميت، أو يُحرق ويُنثر رمادُه، يسود صمتٌ بين المحيطين به، ويدركون أنّ ما من معجزةٍ ستحدث، وتعيده إلى الحياة، لقد قُضي الأمر“. يبدو قوله صحيحاً إلى درجة ما، إلا أنّ التسليم بالموت لا يوقف التفكير بالميت، ولا يمنع الدوران حوله.

 

خلال سنة كاملة، منذ أن عرفتُ بوفاة (أبو الطيب)، ورافقتُه إلى مقبرة الغرباء في (نجها) حيث دُفِن، لم أَمَلّ من قرع الجرس، وطرق الباب، والجلوس عند عتبة شقته. كان يعتريني أمل أنّ الباب سيُفتح، وسأدخل منه لأجده جالساً على كرسيّه بانتظاري.

 

لستُ ممن يعيشون انفصاماً عن الواقع، كأنّي غير معترفة بالموت، ولا أعرف من الحياة إلا نصفاً واحداً، لكن رحيله المفاجئ، أو ربما خُيّل لي أنّه مفاجئ، جعلني في حالة تقليبٍ لذكرياتِ عشر سنواتٍ جمعتنا معاً، من صورٍ وفيديوهاتٍ وأحاديثٍ وتسجيلاتٍ.

 

في كُلِّ مرة أفتح فيها الكمبيوتر المحمول، وأُقلّب في ملف أسميته (بندر)، أشعر بانقباضٍ، وحنينٍ، وأسى. أقول بيني وبين نفسي: علام أشعر بالحزن؟ هل لأنّ حياتَه فارقت جسدها، أم لأنّي خسرتُ برحيله أياماً ولحظاتٍ لن أستعيدها؟ هل أشعر بالحزن عليه أم على نفسي؟

 

حسب مفهوم سادغورو، ثمة ثلاثة مكونات للحياة والموت، وهي المعلومات والطاقة والوقت. يمكن التحكم بالمعلومات والطاقة، وأنّ نجسدهما في حياتنا، لكن الوقت أكثر تملصاً من البُعدين السابقين، ولا يمكن تسريعه أو إبطاؤه، إنّه يحدّد مدة حياة الإنسان وموعد انقضائها. لذلك، من يتحكّم بالوقت، يتحكّم بالحياة والموت.


بندر عبد الحميد

 

ضمن هذا المفهوم، استطاع (أبو الطيب) أن يتولّى أمر أعمق الجوانب في حياته. جمع جسده الفيزيائي ببطءٍ ووعي عبر مرحلة من الوقت، وتخلّى عنه بوعي أيضاً. كان قد أسرَّ لابنته قبل فترة وجيزة من موته أن ”لا تخافي عندما أموت، سأبقى أراقبكم وأحميكم من السماء“. لقد عرف بدنوّ موته، وربما حدّد الموعد بينه وبين نفسه. أراد أن يعيدَ جسده إلى الطبيعة كما أخذه منها، وهو بأتمِّ حال، وخالٍ من الأمراض والندوب والجروح، فكان له ما أراد.

 

في الأحاديث القليلة معه عن الموت، شبهه لي برحلة فضائية إلى سماوات لا نهائية. الموت عنده لا يبعث شعوراً بالخوف، ورعباً من فناءٍ نهائي، بل فضولاً لاستكشاف عالمٍ مجهول، وهذا ما جعله لا يؤمن بأشكال الخلاص ووعود الخلود والقيامة السحرية.

 

في اليوم السابق لموته، تحدّثنا هاتفياً، وتواعدنا أن نلتقي بعد أربعٍ وعشرين ساعة. عند الواحدة والنصف ليلاً من يوم لقائنا، كان (أبو الطيب) في المطبخ بشقة الفنان التشكيلي العراقي، جبر علوان، البعيدة عن شقته بضعة أمتار، يحضّر قطعاً من الدجاج ليطهوها، ويستعدّ لإتمام المرحلة الأخيرة من الـ(سامادي)، وهي وفقاً لـ(سادغورو) أعلى مستوى من الوعي البشري يمكن للمرء أن يبلغه، وتعني الاتزان الذهني، وإلغاء البعد التمييزي. إنّها مرحلة اللامحدودية المطلقة، لا نشوة فيها ولا سعادة، يُحدَد من خلالها الوقت والموعد.

 

بعد ثلاثة وسبعين عاماً، شعر (أبو الطيب) أنّ طاقاته وصلت إلى ذروةٍ لم يعد بإمكان جسده الفيزيائي احتواءها. قرّر أن الوقت حان، بعد أن اكتملت دورة الحياة لديه، وعمل فيها كل ما رغب بفعله. تمدّد على أرضيّة المطبخ، وخلع جسده برضا، كمن يخلع عنه قطعة من الملابس. لقد انتهت اللعبة، ولم يعد هنالك المزيد من أي شيء. في اليوم التالي، وضِعت شاهدة قبره، وراحت حياته تبحث عن جسد آخر تلبسه.

 

بعد أيام قليلة، يكون قد مضى على موت بندر عاماً كاملاً. كثيرة هي المرات التي قلتُ فيها يا ليته لم يمت. ربما سأظلّ أكرّر هذه العبارة حتى بعد أن تمعنت في فهمه للحياة والموت. ثمة إحساس داخلي يرفض القبول بهذا الأمر، وتفكير عقلي يميل إلى تشريح سادغورو في كتابه (الموت: قصة من الداخل)، ”عندما نتصالح مع الموت، وندرك الطبيعة الفانية للحياة، تتملكنا الرغبة في أن نجعل كل لحظة نعيشها جميلة قدر الإمكان. فقط من يعتقدون أنّهم خالدون، يستمرون بالصراعات حتى الموت. وعندما تقرّر حياة أن تغادر جسدها المادي، علينا أن نحترم قرارها. إن لم نفعل ذلك، يعني أنّنا لم نفهم مسار الحياة“.

 

ليفانت - ميرنا الرشيد

 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!