الوضع المظلم
الأحد ١٩ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
الماديّة العشائريّة وصديقي القُرباطي
حسام الدين الفرا

يا جماعة أنا واللهِ بكسر الهاء قرباطي، وليس لي قبيلة، ولا عشيرة .

قال صديقي ذلك بعصبية، عندما سأله شخص إلى أيّ عشيرة تنتمي، ومن أيّ العمام ؟

ترسخ في لاوعي صديقي الخوف من العشيرة، في مدينة تحتكم للأعراف والتقاليد العشائرية، وربما يعود ذلك إلى كونه

غريباً لا عشيرة له، ولا تؤمن أسرته، ولا تهتم بالتصنيفات السائدة، وإلى تنبيه أمه له مذ أن كان صغيراً، بألّا يتشاجر مع

أبناء الجيران، وكانت تخيفه وتقول : هؤلاء وراءهم عشائر كبيرة يأكلوننا بلا ملح، ويرحلوننا من المدينة .

لذلك كان يتجنب إثارة المشاكل، والعيش بهدوء وسلام، وإن حدث وتشاجر مع أحدهم مُكرهاً، يستسمحه ويعتذر منه، لكن

الخصم يقابله بعنجهية وتعنت ويقول : إذا أنا سامحتكَ عشيرتي لا تسامح .

فيردّ عليه : لكن أنا تشاجرتُ معك، وليس مع عشيرتك .

وهذا ما يجعل صديقي خائفاً ومُتوجّساً عدة أيام أثناء الخروج من البيت، والتجوّل في السوق خشية أن يتعرّض لأي أذى .

كل شيء في المدينة تتدخل فيه العشيرة، حتى في التقييمات الأدبية، فقد سئل يوماً أحد الشعراء عن أديب في المدينة، فقال

مازحاً : إنه أديب جيد لكن عشيرته غير كبيرة .

ويرى صديقي بأن اللايكات والقلوب الحمراء، في عالم الفيس الافتراضي لها نفَس عشائري وقبلي، فابن القبيلة والعشيرة

الكبيرة سيحظى بها أكثر، وإن كان ما يكتبه لا يعدو أن يكون مجرّد سفاسفَ وترهات .

تتدخل العشيرة وأحكامها حتى في الانتخابات في المدن ذات التركيبة العشائرية، سواء أكانت لمجلس الشعب أو انتخابات

الحزب القائد العتيد، أو الأحزاب الأخرى التي تُقاد في المجتمع .

ويصل الاصطفاف العشائري والتعصب إلى أعلى مستوى له أثناء الانتخابات، وتقام الخيام والولائم، وتُنشَر الدعايات

للمرشحين، ولا يخلو التنافس من بعض المشاحنات، والإشكالات بين مُتعصبي كل طرف، وللأسف يدخل بعض المثقفين

تحت لواء عشائرهم، يذودون عنها، ومنهم مَن يحمل شهادات جامعية، ويصبح مندوباً عن مرشح العشيرة الذي هو شيخ

العشيرة، وغالبا لا يحمل شهادة جامعية، أو لم ينهِ تعليمه .

وتبلغ الأمور ذروتها في الاحتقان، ليلة فتح الصناديق، وإعلان الفائزين، وطبعاً في أكثر الأوقات الأسماء تكون جاهزة،

ومُعدّة حتى قبل ممارسة هذا الطقس الديمقراطي الجميل .

في تلك الليلة ساعة إعلان التلفاز الأسماء، ترى طوابير السيارات تُطلق أصوات زماميرها، وتحمل صور المنتصر بعضوية

المجلس، ويحمد سكان المدينة ربهم، لأن الأمور فضّتْ على خير، ولم تتحول المشاحنات والتنافس إلى معاركَ تسيل فيها

الدماء، ويعود المثقفون الذين انخرط بعضهم بالتجييش العشائري إلى أعمالهم، أو إلى نضالهم الطبقي، أو نشاطهم المدني

السابق ،فالانتخابات واصطفافهم خلف شيخ العشيرة لا يؤثر على نضالهم الطبقي والمدني البتة كما يرَون .

يقول صديقي : حتى انتخابات الحزب القائد، أو بالأحرى تعيين الفرع، وأعضائه المناضلين الأشاوس يُراعى التوزيع

العشائري فيه، وخطوط المدينة شرقاً وغرباً وشمالاً وبالتأكيد جنوباً لكيلا يزعل أهل الجنوب .

لكن ما يدعو للاستغراب، هو أن تتم انتخابات الحزب الشيوعي، لتحديد لجنتيه الفرعية والمنطقية على أساس وولاء

عشائري، وهذا ما كان يحدث، إذ يفوز من ينتمي لأكبر العشائر عدداً، وغالباً ما يكون هذا الشخص البروليتاري غير الرثّ،

قد قام بتنسيب أقربائه، وأصدقائه إلى صفوف النضال الطبقي، لا لشيء إلا ليضمن ولاءهم، وأصواتهم في انتخابات قادمة،

فيكونون كما قال الموسيقار عبد الوهاب يوماً مُردّدين أو إمّعات يصفقون له .

يتساءل صديقي عن المنطلقات الفكرية التي تشرّبوها واستوعبوها، والتي جعلتهم يعملون بهذا الشكل، هل قرؤوا لينين

وماركس حقاً ؟ !

ولو بقي لينين حياً، ورأى ما يفعل هؤلاء الرفاق المحسوبون عليه لمزّق كتبه، وترك نضاله الطبقي، أو غيّر اسم كتابه من

;ما العمل ; إلى اسم آخرَ ; ما هكذا العمل ; ولأضاف إلى ;الماديّة التاريخية; عنواناً جديداً هو ; الماديّة العشائريّة ; .


ولكن ما يزيد الاستغراب، ويجعل المرء يفتح فاه دهشته، دون أن يغلقه وجود تنسيق بين أجهزة الأمن العربية، وإيلاء

الانتساب للعشيرة اهتماماً ملحوظاً، كما يقول صديقي فقد جاءه مساعد من الأمن بُعيد الموافقة، وقبوله للعمل في دولة

خليجية، وركّز المساعد على معرفة العشيرة التي ينتمي إليها، فكان رد صديقي كالمعتاد : إنه قرباطي لا عشيرة له .

فلمْ يعرف لمَ تمّ التركيز على ذلك ؟

وعندما سافر إلى تلك الدولة الخليجية، تفاجأ بوجود التركيبة العشائرية والقبلية هناك .

ووجد عندهم جمعيات ومجلات خاصة بالقبائل، تهتم بتراث القبيلة وأعلامها، ومن هذه القبائل قبيلة ; الشحوح ; .

يختم صديقي كلامه قائلاً : أينما ولّيتُ وجهي أرى التركيب القبلي والعشائري، حتى إنني عارضتُ بيت ابن الصمّة الشهير

الذي يقول :


ومَا أنَا إلا من غَزِيَةَ إنْ غوَتْ

غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزيَةُ أَرْشُدِ


ببيت أقول فيه :


وما أنتمي إلّا لقُرباطِ أرضِنا

فأكرمْ بهِ من موئلٍ لي ومحْتدِ


أنهى صديقي كلامه، وعلقتُ عليه، بأن للانتماء القبلي والعشائري جوانبَ إيجاببةً مضيئةً، ولكنّ بعضهم لا يرى إلا السلبيات

والنواقص .


حسام الدين الفرا – سوريا – أقيم في تركيا

إجازة في اللغة العربية - أكتب الشعر ولي مجموعتان شعريتان

عمل سابقاً مدرساً ومدققاً لغوياً في الإمارات العربية المتحدة

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!