الوضع المظلم
الإثنين ٠٦ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
القوات المسلحة في مواجهة أزمات كورونا
داليا زيادة

أعادت أزمة انتشار فيروس كورونا في العالم، وما ترتب عليها من أزمات محلية، خصوصاً على المستوى الاقتصادي، الجدل حول الدور السياسي للقوات المسلحة، وإلى أي مدى يمكن لمؤسسات الجيش معاونة القطاع العام في الحفاظ على تماسك الدولة وتنمية مواردها، بالتوازي مع ضمان الاستمرار في تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، دون التأثير على حرية السوق ومصالح القطاع الخاص.


فقد رأينا الجيوش والمؤسسات العسكرية، منذ بداية الأزمة البيولوجية العالمية، تتدخل بشكل مباشر في إدارة شئون الحياة العامة، بما في ذلك الدول الغربية التي تتمسك بتطبيق مبدأ "السيادة الديمقراطية على القوات المسلحة" والتي تستوجب استبعاد القوات المسلحة من كافة الأنشطة المدنية والسياسية، واقتصار نشاطها على التحركات العسكرية التي تقر بها الإدارة المدنية للدولة. وجدير بالذكر أن لهذه النظرية نظرية مقابلة، نشأت أيضاً في بعض الدول الغربية التي فشل القطاع المدني فيها في إدارة أزمات سياسية وأمنية كبرى، وهي نظرية "الدور غير التقليدي للقوات المسلحة" والذي يستوجب تدخل القوات المسلحة في أوقات معينة وبقدر معين لمعاونة الدولة في مشروعات التنمية المدنية والاقتصادية وإدارة الأزمات.


ولعل النموذج المصري هو الحالة الأمثل لمناقشة هذه الجدلية على أرض الواقع، فقد أثبتت التجربة المصرية، على عكس كل النظريات الغربية المضادة، أن استقلال المؤسسة العسكرية، والذي يسمح للقوات المسلحة بالقيام بأنشطة سياسية واقتصادية، موازية للقطاعين العام والخاص، ليس بالضرورة اعتداء على الدولة المدنية وصلاحياتها أو يشكل تهديداً لاقتصاديات القطاع الخاص كما يدعي البعض، بل قد يكون هو صمام الأمان الأقوى للحفاظ على بقاء وتطوير الدولة المدنية.


فمنذ أن بدأت أزمة انتشار فيروس كورونا في مصر، في أواخر شهر فبراير، لم توفر الحكومة جهداً في محاولة احتواء الأزمة البيولوجية وتقليل أثارها الاقتصادية والسياسية قدر الإمكان، ولم يمر وقت طويل قبل أن يبدأ المواطنون بالإشارة بأصبع الاتهام إلى القطاع الخاص الذي ترك الحكومة تتحمل المسؤولية منفردة، وانشغل بممارسات احتكارية غير مشروعة أثرت بشكل سلبي على توافر احتياجات المواطنين من سلع غذائية ودوائية، وهو فعل، للأسف الشديد، ليس بجديد على القطاع الخاص في مصر، الذي اعتاد على استغلال كل أزمة تمر بها البلاد من أجل زيادة أرباحه.


وبدلاً من أن يستجيب القطاع الخاص للوم المواطنين ويبادر بتحمل المسؤولية مع الدولة، أخذ بعض أصحاب الأعمال يلقون باللوم على الحكومة المصرية وما اتخذته من قرارات تستلزم تجميد الأنشطة العامة، ومنها بالطبع الانشطة الاقتصادية، لاحتواء انتشار فيروس كورونا المهدد للحياة، حتى أن واحداً من أشهر وأكبر رجال الأعمال في السوق المصري قال، في تصريح إعلامي، أن الحكومة قد بالغت في إجراءاتها ضد فيروس كورونا، وأنه يرى أن "موت بعض المواطنين بسبب الفيروس أفضل من أن تصل البلاد لحالة إفلاس" بسبب توقف الحياة اليومية وشلل حركة الاقتصاد.


وبالتالي، كان لزاماً على القوات المسلحة أن تتدخل، كعادتها، لفك هذا الاشتباك بين القطاع الخاص والدولة، وطمأنة المواطن بأن المؤسسة العسكرية قادرة على العبور بمصر من هذه الأزمة. فقد التقى الرئيس السيسي مع قيادات عليا بالقوات المسلحة، في لقاء تم بثه على الهواء على التليفزيون المصري، لاستعراض استعدادات "جهاز مشروعات الخدمة الوطنية" التابع للقوات المسلحة، لدعم القطاع المدني ومنع الممارسات الاحتكارية بالسوق، خصوصاً فيما يتعلق بالسلع الغذائية والدوائية اللازمة لضمان استقرار البلاد لحين انتهاء أزمة كورونا. وذكر الرئيس السيسي، في نهاية هذا اللقاء، موجهاً خطابه للمواطنين، أن الغرض من هذا الاستعراض لجاهزية القوات المسلحة لمعاونة الحكومة المدنية في هذه الأزمة، هو تطمين المصريين بأن هناك "نسق موازي جاهز، وأن القوات المسلحة درع مصر وسندها، وهي في خدمة شعبها وأمنه وسلامته واستقراره" وطالب هيئة الإمداد والتموين وجهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة بمضاعفة الإنتاج لسد احتياجات السوق.


ولم تكن هذه المرة الأولى التي تتدخل فيها القوات المسلحة لإنقاذ الموقف، فعلى مدار العقدين الأخيرين فقط، كان للقوات المسلحة دور بارز في كل الأزمات السياسية والاقتصادية والكوارث الطبيعية التي مرت بمصر، بدءاً من الزلزال النادر الذي تعرضت له مصر في عام ١٩٩٢ وترتب عليه خسائر ضخمة في الممتلكات والأرواح، ثم أزمة تقاتل المواطنين للحصول على رغيف الخبز في عام ٢٠٠٨، ثم الدور البطولي للقوات المسلحة في الانحياز لإرادة الشعب في ثورة يناير ٢٠١١ ضد نظام مبارك وثورة يونيو ٢٠١٣ ضد حكم الإخوان المسلمين، ثم تأمين البلاد إلى جانب قوات الشرطة في مواجهة أعمال تخريب قادتها جماعة الإخوان انتقاماً من الشعب المصري الذي أطاح بهم من الحكم، ومؤخراً في أثناء الأزمة الاقتصادية التي مرت بها مصر في بداية عملية الإصلاح الاقتصادي عام ٢٠١٦، كان للشركات التابعة للقوات المسلحة دور رئيسي في رفع العبء عن المواطنين وتوفير السلع الغذائية بأسعار مناسبة، في الوقت الذي استغل فيه القطاع الخاص الأزمة لمضاعفة الأسعار على المواطنين وزيادة أرباحه.


وهو نفسه القطاع الخاص الذي لا يتوانى رؤوسه في مهاجمة المشروعات الانتاجية التي تقوم عليها القوات المسلحة، بغرض تقديم الخدمات والسلع الأساسية للحكومة والمواطن بأعلى جودة وأقل سعر، مدعين أن المؤسسة العسكرية تؤثر على التنافسية في السوق المصري، نظراً لأن القوات المسلحة تمتلك المعدات والعمالة الرخيصة التي تمكنها من تقديم خدمات ومنتجات أفضل وذات تنافسية سعرية أعلى، وعندما استجاب الرئيس السيسي لشكاويهم وبادر في شهر نوفمبر من العام الماضي باقتراح طرح أسهم الشركات الصناعية التابعة للقوات المسلحة في البورصة، والسماح للمستثمرين المصريين بمشاركة القوات المسلحة فيها، انتقد بعض أصحاب الأعمال هذه الخطوة واعتبروها محاولة من الدولة للسيطرة على القطاع الخاص ووضعه "تحت جناح" القوات المسلحة، بدلاً من أن يروها فرصة لتحرير قطاع اقتصادي مهم جداً والاستفادة منه في إنعاش السوق والبورصة.


لكن وبرغم كل هذا الجدل التنظيري حول فوائد أو عيوب الاستقلالية الاقتصادية والسياسية للقوات المسلحة، فإن المواطن، في أي دولة كانت، يعي ويقدر تماماً الدور المحوري الذي تلعبه المؤسسة العسكرية بكل أفرادها وروافدها في توفير سبل الحياة الآمنة والمستقرة والحفاظ على تماسك الدولة وتنميتها، ولعله من المبالغة أن نقول بأن هذا التوجه المنحاز لمصلحة المواطن من جانب القوات المسلحة من شأنه أن يضر بعملية التطور الديمقراطي أو يؤثر على الإدارة المدنية للدولة أو يقلص من حرية السوق، في أي بلد، بل على العكس، هو بمثابة صمام أمان يحافظ على التوازن السياسي والاقتصادي المطلوب لحماية المجتمع في أوقات الشدة، ويحفز التنمية المستدامة للدولة في أوقات الرخاء.


داليا زيادة

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!