الوضع المظلم
السبت ١١ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
الفراعنة زلزال لا توقظوهم وإلا…؟
إبراهيم فضلون


قديماً عاشت قرية في غبائها، وذات يوم كان بها حُفرة كبيـرة يسقط فيها الناس ويموتون، حتى اشتكوا وملّوا منها فاجتمع حُكماء القرية لحـل هذه المشكلـة، فاختاروا أفضل ثـلاثة فيهم، حتى إذا وقفوا أمام الحفرة يتشـاورن، قال أولهم: نوقـف رجالاً عند الحفـرة وكـلما سقط واحد يأخذونه بسرعـة إلى المشفى، لينهرهُ الثاني: لا.. الأفضل أن نوقـف سيارة إسعـاف عند الحفرة، وبهذا ننقذ مَنْ يسقط قبل أن يموت، أما الثالث فقال: لا.. الحل عندي. الفراعنة 


أن نـردم هـذه الحفرة ونحفـر بـدلاً منهـا حفرة تكون قريبة من المشفى، لنرى مثلث (الإرهاب والصليبيين وأعداء العروبة)، في مفرق طرق لملف أطول نهر في العالم، بتعقيداتها التاريخية الكُبرى، للنَيّلِ من شريان مصر مُنذ 800 عام، ولم يفهم العالم أنّها دولة عصية على من يُريدون النَيلَ منها منذ أبد الآبدين، زادت برحاها الحروب الصليبية وللآن، بعد انتصار صلاح الدين عليهم، حيث قام الجنرال الصليبي الفرنسي (برو) عندما دخل دمشق بالذهاب لضريح الناصر صلاح الدين ليرفسهُ بالحذاء، قائلاً: “الآن عُدنا يا صلاح الدين” لأنه صان العروبة.


وحينما تلقى الرحالة فاسكو ديجاما أوامراً من البابا ألكسندر السادس، سعي للاتفاق مع ملك إثيوبيا لعقاب مصر وتجويعها بل وإسقاطها عبر “أتون الإرهاب”، بعدما خاب أملهم واستنفدوا طرائقهم الخداعة، مُتناسين أن الله قد صانها بذكره لنيلها ولفظها أكثر من أي قُطر في الدنيا، لأنها أُم الدُنيا “مصر”، التي قال عنها هيرودوت (15 ق.م): “مصر هبة النيل”، ونظم الشاعر الروماني تيبولوسق الأول قصيدة فيها: “الأرض التي ترويها لا تطالب السماء بالماء، والعشب الذي جف لا يتضرّع إلى جوبيتير ليوزع مياه الأمطار”، والآن تتبادل الألسنة من جديد، قصة الملك الأثيوبي دويت الثاني، الذي هدد سلاطنة المماليك في مطلع عام (15 ق.م) بحجز مياه النيل عنهم، أعقبها مقترح لسد أثيوبي عام 1964، يكون أضعافاً مضاعفة لأي تصور سابق، بل واقترح مكتب الاستصلاح الأمريكي بناء سد في تلك المنطقة بسعة تُقدر ما بين 11-16 مليار متر مكعب، بل وقدم المكتب الفني الإقليمي للنيل الشرقي (ENTRO)، عام 2007 تقريراً عن جدوى بناء ما أسمته إثيوبيا «مشروع الطاقة الكهرومائية على الحدود»، والذي تم تصميمه لتخزين ما يتجاوز 14 مليار متر مكعب من الماء، والآن سد النهضة صُمّم لسعة تخزينه تصل إلى 74 مليار متر مكعب، أضعاف سدي أمريكا (سد هوفر، وسد روبرت موزس) قرب شلالات نياجرا، بل وأكبر من بحيرة ميد، أكبر بحيرة من صنع الإنسان في أمريكا.


لقد صار النيل والقرن الأفريقي، كلعبة الشطرنج، ممزقين بين أشقاء النيل، ورهنٌ للقُوى الإقليمية في الشرق الأوسط، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لتقع المنطقة بين براثن حرب “قطرة الماء أغلى من قطرة البترول”، وهو ما أكده د. بطرس غالي عام 1992، وكأنه سمع دبيب الأحذية العسكرية في الأفق، بعد أن شكلت السودان وأثيوبيا قوة مُشتركة لحماية السد، بينما الأسطول البحري المصري يجول في مضيق باب المندب، وهو قادر على إنهاء الأمر حال تفكير أثيوبيا بالخداع، بل ولمصر فرق عسكرية بأريتريا، عدو أثيوبيا اللدود، ورغم ذلك لا تريد القاهرة الحرب، لأنها دولة سلام، كالسعودية، فلو كانت المفاوضات هدفها تشغيل السد وتوليد الطاقة الكهرومائية، دون الإضرار بحقوق دولتي المصب، حينما قد يُمكن التوصل إلى اتفاقية عادلة ومتوازنة، لكن المأساة أنّ أثيوبيا تعنتت لأجندات خارجية وسياسية داخلية كـ”الانتخابات” غير الشفافة لشعبها الطيب، ما جعل مشاعر العظمة تملأ سدود الإنسانية بأداة لإنشاء وتقنين حق غير مُنظم في استغلال ثروات النيل الأزرق بشعور (وهمي سائد) بالاستحقاق.


إنّ الحلول لها منهجيات خاصة، وإدارة الأزمات لها قواعد ثابتة، يتم على إثرها مناقشة الإخفاقات من قبل مُتخصصين، خلف أبواب مُغلقة، وليس «على البحري»، كما تتعنت إثيوبيا، بفتح جبهات هجوم على مصر، فدَرْءُ تلك المفسدة، مُقدَّمٌ على ما سواها، فبناء السد في الظلام دون إبلاغ دولتي المصب أو استشارتهما، بل وبدون إجراء دراسات بيئية واجتماعية واقتصادية قانونية دولي، لا يجعل هناك أية ضمانات بأنّه آمن هيكلياً، وكأنهم في مطاردة لوهم سد مُنهار قبل أن يُفكروا فيه، وهو ما يُلقي بظلال من الشك حول السد برُمته، وفق تقارير لجنة الخبراء الدولية، لكن وبعد فشل «سيناريو خط الأساس»، بمبدأيه: (مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول والالتزام بعدم التسبب في ضرر ذي شأن)، غير قابلين للتطبيق بدون سيناريو خط أساس يستند إلى الاستخدامات الحالية، وكأنها أمور مُستحيلة، فالسد تقريباً لا يوجد سجل شامل لآثاره المحتملة، شاهد على انتهاكات إثيوبيا للقوانين الدولية، ونظام النهر البيئي  صاحب الأثر السلبي على أجيال شعبها مُستقبلاً.


إذاً هي دولة ليست مُستعدة للاتفاق، تُناور كعادة الصهاينة والماسونيين باقتراح ضعيف أظهر أنّ هدفها في المفاوضات، إفشالها واستهلاك الوقت، وجعل كافة الخيارات حرجة لتصعيد نزاع دولي، بعدما رفض الإثيوبي التوقيع على مسودة اتفاق أميركي، نهاية فبراير الماضي، وإعلان «حرب التصريحات»، بتعنت رئيس الوزراء، آبي أحمد، قائلاً: “إنّ سد النهضة أصبح قضية شرف وطني؛ لن نتخلى عنه”. وقبلها صرّح وزير الخارجية الإثيوبي: “إنّ الأرض أرضنا، والمياه مياهنا، والمال الذي يبنى به سد النهضة مالنا، ولا قوة يمكنها منعنا من بنائه”.


في خطابات شعبوية تستهدف حشد المواطنين، لكن الأكيد أنهم يرتعدون كاليهود اللذين ارتعدوا من مصر في حرب أكتوبر وللآن، وكما ارتعد الصليبيون من صلاح الدين.. وكأنهم في تفاهمات وتوافقات على تدمير من صانها الله في قرآنه الكريم، وكَرمَ نبيهِ (مُحمد) شعباً أثار التاريخ مناقبهُ، في السلم والحرب التي نوه عنها أبو أحمد عن «استعداد بلاده لحشد الملايين للدفاع عن السد» في مواجهة أي حرب، فهل نسي التاريخ، فإن نسي فليسأله من هي أم الدُنيا “مصر” التي يهابها كل شعوب الأرض فجيشها وشعبها وقت الأهوال تراهم “زلزالاً حقيقياً”، لا يقدر عليهم قوة إلا الله.


ولعل تجارب الفراعنة القديمة في الصراعات البشرية، مازالت تحكم قراراتنا رغم تغير مفردات العصر، وأن القوى تكون ضرورية لكنها تحتاج إلى تصورات أوسع، إذا دعت الحاجة، “فليس كل ما يُعْرَف يُقال، وليس كل ما يُقال حَضَرَ أهلُه، وليس كل ما حَضَرَ أهلُهُ حان وقته، وليس كل ما حان وقته صَحَّ قوله”، كما قالها الإمام علي -رضي الله عنه- و”اللي مايعرف الصقر يشويه”.


ليفانت – د. إبراهيم بن جلال فضلون







 



النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!