الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الصحوة الدموية الجديدة
عبير نصر

مَن كان يعتقد أنّ جذورَ الإرهاب سياسيةٌ وعقائديةٌ واجتماعيةٌ بحتة، وإنْ كانت تحمل بعض هذه الأوجه، فهو مخطئ تماماً، والحقيقة أنّه بعد انتهاء عصر الاستعمار المباشر من خلال نشر القوات والجيوش، اتجهتِ الدولُ الغربية إلى السيطرة غير المباشرة، من خلال دعم المجموعات الموالية لها، والتي لا تحتاج سوى السلاح، مقابل الحفاظ على مصالحها المتمثلة بالسيطرة على الموارد النفطية وغيرها. الصحوة 


فظهرت الجماعاتُ الإسلامية الموسومة (بالسلفية الجهادية)، التي تبنّت استخدامَ العنف لتحقيق أهدافٍ سياسية، مثل تنظيم القاعدة، الذي أعاد بعد هزيمته في أفغانستان تشكيلَ قواعده على شكل تنظيماتٍ إقليمية منفصلة ومتصلة في آن: (تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، جبهة النصرة لأهل الشام في سوريا، تنظيم القاعدة في جنوب آسيا، حركة الجهاد في مصر، حركة الشباب المجاهدين في الصومال، وحركة بوكو حرام في نيجيريا.. إلخ)، ولوحظ أنَّ الإرهابَ قد شدّد على أعماله في الدول العربية والإسلامية التي تحتوي على أكبر محزونات النفط والغاز (العراق، الجزائر، ليبيا، نيجيريا)، كذلك من تتمتع بموقع استراتيجي هام (سوريا، اليمن، أفغانستان، الصومال).


وارتبط إعلانُ (الخلافةِ) بسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على أجزاء واسعة من العراق وسوريا، واستيلائه على كمياتٍ كبيرة من أسلحة الجيشين العراقي والسوري، ناهيك عن نهبه للأموال من المصارف، وبيعه الآثار التي نهبها من المتاحف والمواقع الأثرية، وبيع النفط والغاز من الآبار التي وضع يده عليها في تلك المناطق، مستخدماً عنفاً فائق الوحشية، بإعدام الضحايا من المدنيين بالجملة، بالرصاص أو بقطعِ رؤوسهم والتمثيل بجثثهم، لذا ومن الطبيعي ألا يأتي الإرهاب بشكلٍ اعتباطي، بل له أسبابه ودوافعه، فقد دخل العراق من خلال الاحتلال الأمريكي عام 2003، وركز عملياته على المحافظات النفطية والاستراتيجية (نينوى والأنبار وصلاح الدين وكركوك وديالى)، إضافة إلى سوريا التي تحوي أراضيها مخزونات من النفط، وباعتبارها الممرّ الحيوي لنفط العراق عبر البحر الأبيض المتوسط، ثم إلى الدول الغربية، فقد تمّ استخراجُ النفط من حقول العراق الشمالية والحقول السورية من قبل عصاباتِ داعش، وتهريبه إلى دول الغرب عن طريق شمال العراق وتركيا، وبيعه بأسعارٍ زهيدة جداً.


ويمتدّ تاريخ التنظيم في العراق إلى عام 2003، حيث قام (أبو مصعب الزرقاوي) بتأسيس ما عُرف حينها بتنظيم (الجهاد والتوحيد)، ومرّ بمراحل وانعطافات عديدة الى أنْ أُعلن عن (دولة العراق الإسلامية) عام 2006، وفي أواخر 2011 تمّ الإعلان عن تشكيل جبهة النصرة لأهل الشام، وهي فرع تنظيم القاعدة في سوريا بقيادة (أبو محمد الجولاني)، الذي أوفده تنظيم الدولة الاسلامية في العراق إلى سوريا لهذا الغرض، مع عددٍ من قادته المتمرسين، وفي أبريل/ نيسان من عام2013، تمّ الإعلانُ أخيراً عن إقامةِ (الدولة الاسلامية في العراق والشام)، وانضم إليها أغلب المقاتلين الأجانب في النصرة، وهو ما شكل افتراقاً علنياً بين القاعدة والتنظيم.


ويبدو أنّ تنظيمَ (داعش) يسعى للعودة مجدداً من بوابة الاغتيالات التي ينفذها في مناطق سوريّة مختلفة، يخضع معظمها لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وأخرى تقع تحت سيطرة قوات النظام السوري، ويعمد إلى شنّ عملياته في مناطق بعيدة عن المدن الكبرى، لضمان عدم وصول تعزيزات أو مؤازرات، وساهمتِ الهجماتُ التركيّة المتكررة على المقاتلين الأكراد في (قسد)، وحلفائهم المحليين من العشائر العربية، ومجموعات أخرى سريانية وأرمنية، بتدهورٍ أمني استغلّه التنظيم للعودة مجدداً إلى المناطق التي سبق وسيطر عليها، كالرقة ودير الزور، ويعتقد خبراء في الأمم المتحدة أنّ هناك حوالي عشرة آلاف مقاتل من التنظيم في سوريا والعراق، في وقتٍ شدّد فيه (جون جودفري)، القائم بأعمال المبعوث الخاص الأميركي إلى التحالف الدولي لهزيمة (داعش)، على أنّ التنظيمَ الإرهابي ما يزال يشكل تهديداً للأمن والسلم العالمي، وأنّ إعادة تشكيله في سوريا تتمّ في المناطق التي لا تتواجد بها القوات الأميركية، أو قوات التحالف الدولي، وبدورها أعربت وزيرة الدفاع الفرنسية (فلورانس بارلي)، عن قلقها من عودة ظهور داعش في العراق وسوريا، فيما تتواصل تعبئة العسكريين الفرنسيين ضمن تحالفٍ دولي لمكافحة التنظيم بقيادة الولايات المتحدة.


وبعد عامين على هزيمة التنظيم، أعلنت القوات الكردية مؤخراً عن توقيف (53) شخصاً في إطار حملةٍ أمنيةٍ غير مسبوقة بدأت ضد عناصر (داعش)، والمتعاونين معهم داخل مخيم الهول، الذي شهد بدوره حوادث أمنية واغتيالات في شمال شرقي سوريا، ورغم مقتل العديد من قياداته الأساسية وتشتّت عناصره، حافظ التنظيم على تماسك وسلامة بنيته، ولم تستطع القيادةُ الجديدة تجاوزَ الإرث التنظيمي لأبي بكر البغدادي، بل قامت بالبناء عليه، وساعد التنظيم على الصمود احتفاظُه بشبكةِ تمويلٍ عالميةٍ ضخمة، وبحسب صحيفة (وول ستريت جورنال) الأمريكية يمتلك (داعش) مجموعةً من الشركات والأصول، تصل قيمتها إلى مئات الملايين من الدولارات في جميع أنحاء الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، فيما قدّرت وزارة الخزانة الأمريكية احتياطيات التنظيم المالية بنحو 300 مليون دولار، بينما أعلنتِ الأممُ المتحدة أنها تُقدّر بـ100 مليون دولار على الأقل، واليوم يتبنى التنظيم استراتيجيةً جديدة حوّلته من كيان (شبه دولة) إلى حرب عصابات تقوم على الذبح والاغتيالات والتفجيرات، كما تتضمن التنازل المؤقت عن إنشاء (دولة الخلافة)، وثمّة ترجيح بأنّ روسيا تواجه حرب استنزاف في مواجهة (داعش) الذي لا تنفع الطائراتُ الروسية في القضاء عليه، ولا قوات النظام السوري المتهالكة أصلاً، وفي واقع الأمر ساهم ظهور (التنظيم الدموي) في خلق تحولاتٍ خطيرة في مسارات الأحداث في سوريا والعراق، وفي أدوار اللاعبين، وثمة فرضية تؤيد احتمال إعادة تحديث وظيفته لمواجهة المتغيرات المستجدة.


وبالنظر إلى موقع منطقة البادية السورية التي ينشط بها التنظيم حالياً، فإنّ لها أهمية استراتيجية كبيرة للأطراف المتصارعة في سوريا، فهي تعتبر بالنسبة إلى (داعش) منطقة هشّة أمنياً يستطيع التحرك فيها بحرية، وبالنسبة إلى النظام السوري فالبادية هي أهم طريق إمداد له بالنفط والقمح والغاز المهرب من مناطق سيطرة مليشيات PYD في الجزيرة السورية، إلى المناطق الداخلية في حلب ودمشق والساحل، والسيطرة عليها بمساحتها الشاسعة الكبيرة يعزز أوراق النظام في الدعاية السياسية التي تروج لعودة معظم الأراضي السورية لسيطرته، وفي الحقيقة شكّلت البادية السورية أحدَ أهم معاقل (داعش) منذ نشأته، وتصل مساحتها إلى 80 ألف كيلو متر مربع، كما تتوزّع إدارياً على سبع محافظات سورية هي: دير الزور، وحماة، والرقة، وحمص، وحلب، وريف دمشق، والسويداء، وبعد هزيمته في الباغوز في ريف دير الزور الشرقي على (يد قوات سوريا الديموقراطية) المدعومة أمريكياً عام 2019، انتقلت فلول التنظيم إلى البادية، وقد بدأ بالاستقرار فيها منذ أواخر عام 2017 بعد الهزائم التي تعرّض لها في أرياف دير الزور وحلب، وتعزّزتْ قوتُه بعدما نقل نظام الأسد في عام 2018 الآلاف من عناصر التنظيم، من دمشق وحوض اليرموك في درعا إلى البادية، كذلك انضمام أعداد كبيرة من أبنائها إلى التنظيم، وهؤلاء يعرفون مداخل البادية ومخارجها بشكل دقيق، وكيفية تأمين الإمدادات الغذائية والمائية وطرق نقل السلاح، بالإضافة إلى قدرتهم على التأقلم مع الظروف الصحراوية القاسية. الصحوة 


ليفانت - عبير نصر ليفانت 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!