-
الاقتصاد الروسي يعاني تبعات غزو أوكرانيا قبل أن يبدأ
- عالم متوتر وكباش سياسي
- الروبل على عكازات أمام الدولار
- الشركات الروسية تخسر والأسهم تتدهور حول العالم
- شراسة العقوبات الموسعة
إنها روسيا الصغيرة كما يحلو لكثير من الروس أن يسميها ولاسيما فلاديمير بوتين. لقد كنا في دولة واحدة. دولة كبيرة ذات سهول واسعة لكنها خاصرة رخوة في جَنُوب روسيا الاتحادية. إن وجود حلف الناتو فيها مع منظومة حكم معادية لموسكو هو بمنزلة إعلان حرب قال بوتين ذات مرة؛ ولاسيما أن توسع الناتو المتسارع على الحدود الروسية لم يعد مقبولاً وتبقى أوكرانيا خطاً أحمر.
يرافق تحضيرات روسيا لقواتها على الحدود الأوكرانية وإجراءها المناورات وانخراطها في مواجهة دبلوماسية مع الغرب، انكسارات وخسائر في جوانب من الاقتصاد الروسي بدأت تظهر، ما ينذر فعلاً بالخطر حول حسم مِلَفّ أوكرانيا إما الحرب أو الجنوح لطاولة مفاوضات قبل وصول الربيع.
ما يزال العالم يعاني تبعات الإغلاق بسبب جائحة كورونا والمتحوّرات المتلاحقة. خسائر لحقت بالتنمية على الصعيد الوطني للدول وأخرى في بعض قطاعات الأعمال كالنقل والسياحة. اليوم تخسر الأسهم الأسيوية، وقبلها، ينهار سوق أسهم التكنولوجيا في حدود 15%، وليست الأسهم الأوروبية على ما يرام، هناك فوضى في كل مكان وجو بايدن يريد لملمة المِلَفّ الأوكراني حيث تتصاعد إيقاعات اللعب في المحيط الهادي مع الصين وشد أزر الحلفاء.
تعاني روسيا حتى الآن من تبعات الجائحة، فحتى الآن سجّلت اليوم الثلاثاء 175 ألف حالة إصابة بفايروس كورونا. طمأن قادة أوكرانيا شعبهم بأن الغزو الروسي لم يكن وشيكا، لكن الاعتراف بأن التهديد حقيقي فعلا، فقبلوا شحنة من المُعَدَّات العسكرية الأمريكية اليوم الثلاثاء لتعزيز دفاعاتهم سبقها مثيلتها من بريطانيا وألمانيا وليتوانيا، في الجانب الدفاعي الخفيف.
تستمر روسيا بنفيها شن الهجوم، إلا إنها حشدت ما يقدر بنحو 100 ألف جندي بالقرب من أوكرانيا في الأسابيع الأخيرة، ما دفع الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو للإسراع في الاستعداد للردع لضمان تأطير ومحدودية غزوة بوتين.
جرت عدة جولات دبلوماسية لم تحقق اختراقات، وطالبت موسكو على لسان وزير خارجيتها سيرجي لافروف الغرب بتقديم الضمانات الأمنية مكتوبة في أوراق كما فعل الطرف الروسي، وتصاعدت التوترات هذا الأسبوع بشكل أكبر. قال الناتو إنه يعزز قدرته على الردع في منطقة بحر البلطيق. أما العم سام أمر 8500 جندي أن يكونوا في حالة تأهب قصوى للانتشار المحتمل في أوروبا كجزء من "قوة الرد" للتحالف إذا لزم الأمر.
المشهد من الداخل الروسي
بدأت العقوبات الغربية منذ عام 2014 إبان ضم روسيا لجزيرة القرم، منذ ذلك الوقت والروبل الروسي يرزح تحت تأثير العقوبات الغربية ويفقد من قيمته مقابل الدولار فضلاً عن التضخم المتزايد بشكل مطّرد وغلاء المعيشة المتصاعد في روسيا. تنظر الشركات الروسية بقلق إلى تطورات الأحداث في أوكرانيا وبدأ كثر بالتحوط وشراء الدولارات والعملات الأجنبية بدلاً من الروبل، ما اضطر البنك المركزي الروسي إلى وقف مشترياته من العملات الأجنبية أمسِ الاثنين في محاولة لوقف الانحدار المتسارع في قيمة الروبل.
على إثر هذا الإعلان ارتفعت العملة الروسية على الفور، حيث انخفضت إلى ما دون 79 مقابل الدولار بينما كانت منطلقة نحو 80، لكن الأجواء ما تزال باتجاه تدفع للخسائر. مما زاد الضغط على العملة ما نحتته المخاوف من الضبابية المتعلقة بالغزو الروسي لأوكرانيا. كان انخفاض العملة الروسية بنسبة 2.3٪ بعد ظهر أمسِ الاثنين 24 ديسمبر مقابل الدولار الأمريكي عند 79.3 روبل مقابل الدولار أضعف مستوى في 14 شهرا، فكان قرار وقف شراء العملات للحد من تقلبات الأسواق المالية.
يستخدم البنك المركزي الروسي عائدات صادرات النفط والغاز الروسية ليشتري العملات الأقوى، ليوازن تقلبات العملة وقيمة السلع العالمية. هذا ما يزيد من الضغوط الاقتصادية خلال فترات الاضطراب تَبَعاً لخبراء؛ إذ باع البنك المركزي كميات كبيرة من الروبل في الأيام الأخيرة، بواسطة البيع بالمقابل فوق الحد القياسي 44 دولار للبرميل.
شركات وأسهم
بنظرة على أسواق الأسهم، غادر تريليون دولار من سوق الأسهم في كل القطاعات حول العالم، ولم تسلم الشركات الروسية من المطحنة الأخيرة. جاء قرار المركزي بينما كانت الأسواق الروسية تلفظ أنفاسها أمسِ الاثنين. تراجعت قيمة أكبر الشركات في البلاد وخسرت من قيمتها السوقية عشرات المليارات من الدولارات وسط مخاوف متزايدة من غزو روسي وشيك لأوكرانيا.
انخفض سوق الأسهم الروسية بنسبة 10٪ عند نقطة واحدة يوم الاثنين. وعوضت أسوأ هذه الخسائر، لتتداول عند 7٪ بانخفاض خلال تعاملات بعد الظهر في موسكو، لكن السوق فقد ثلث قيمته منذ أواخر أكتوبر، عندما بدأ التحشيد العسكري الروسي.
وخسرت الشركات الروسية مجتمعة 160 مليار دولار في القيمة منذ الأول من يناير، وفقاً لبيانات السوق. المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف رمى السبب على "التشاؤم العالمي" في بيع الأصول الروسية، وقال إن أسعار الأسهم سترتد مرة أخرى بمجرد تخلي الناتو عن نهجه العدائي تجاه روسيا.
العقوبات الموسعة
مفرمة العقوبات المستمرة فاقمت من تراجع قيمة الروبل مقابل الدولار، فضلا عن ارتفاع التضخم، إلى جانب التنمية الضعيفة واستمرار الاقتصاد ريعياً قائماً على بيع الخامات، لكن الضربات الأكبر بدأت مع الجولة الأولى من العقوبات على روسيا في آذار 2014 بعد ضمها بالقوة لجزيرة القرم والتسبب بنزاع مع جارتها أوكرانيا. تبعها جولتين شملتا كيانات وأفراد، بنوك ومعاملات تجارية وتجميد أصول وحظر سفر ومقتنيات تكنولوجية محدودة في مجال السلاح.
لكن مستوى العقوبات التي هددت بها أمريكا وأوروبا وبريطانيا على روسيا شديد جدا يمكن أن يعيد روسيا عشرات السنين للوراء، ستشمل العقوبات تحويلات سويفت الدولية أيضا وستطال أفراد السلطة ورجال أعمال وأصدقاء وعائلة بوتين حتى "صديقته" لاعبة الجمباز الروسية ألينا كابيفا الفائزة بالميدالية الأولمبية بالجمباز 2004.
في عام 2014 إبان الغزو الروسي للقرم، أعلن الغرب أنه سيقطع السويفت وردت روسيا أنه بمنزلة إعلان حرب. حاولت روسيا منذ ذلك الحين تطوير نظام التحويل المالي الخاص بها، بنجاح محدود. لدى الولايات المتحدة القدرة على منع وصول روسيا للدولار في كل العالم. بل ستراقب الصادرات إلى روسيا وتقطع عنها كل التقنيات والتكنولوجيات المتقدمة.
هذا يعني أن قدرة روسيا على الحصول على رقائق إلكترونية (أشباه موصلات) ودوائر إلكترونية، ومنتجات تحتوي على دوائر متكاملة، ستكون مقيدة بشدة بسبب الهيمنة العالمية للبرامج والتكنولوجيا والمعدات الأمريكية وسطوتها بالعقوبات على شركات كبرى ذات صلة. هذا التأثير سيشمل إلكترونيات الطائرات، والأدوات الآلية، والهواتف الذكية، وأجهزة الألعاب، والأجهزة اللوحية، وأجهزة التلفزيون.
أيضا، يمكن أن تستهدف مثل هذه العقوبات الصناعة الروسية، بما في ذلك قطاعي الدفاع والطيران المدني، مما قد يضر بطموحات التكنولوجيا الفائقة لروسيا، سواء في الذكاء الصنعي أو الحوسبة الكمومية. لن ننسى العقوبات على مشغلي خطوط أنابيب الغاز والنفط ولاسيما نورد ستريم1 و2 الجديد الذي لم يُكتب له الضخ بسبب ممانعة أمريكة سبقها قَبُول مادام لن يستخدم للابتزاز السياسي.
من غير المناسب فرض العقوبات الآن ما لم يحدث الغزو كما يرى الطرف الأمريكي، هددت بريطانيا بفرض عقوباتها وأنها ستكون قاسية جدا كما قال جونسون اليوم 25 ديسمبر. وفي وقت سابق، اتهمت موسكو بأنها تدبر لانقلاب في أوكرانيا. ترسل بريطانيا دعماً عسكرياً محدوداً، وكذلك ألمانيا التي ترسم بحذر نوعية الدعم العسكري، بينما أوقفت ثلاث مفاعلات نووية، فهي تعتمد على تقديم نفسها كمورد رئيس للغاز الروسي إلى أوروبا، بيد أنها في سياق العمل الجماعي مع التكتل الأوروبي ضمن ضوابطها.
اقرأ المزيد: جونسون: غزو روسيا لأوكرانيا سيقابل بـعقوبات قاسية جداً
مسار التحرك العسكري محدود حتى الآن من قبل الغرب لكنه بدأ وما يزال في إطار بروتوكولي ولن يتغير حتى مع الغزو مادام أن العملية العسكرية الروسية ستكون محدودة ولا يمكن أن نشهد دراما كبرى فإقليم دونباس يشهد حتى الآن معارك بين الانفصاليين وكييف. على سبيل المثال جهّزت أمريكا 8500 عسكري للنشر خلال أسبوع في أوروبا الشرقية. أرسلت الدنمارك فرقاطة وطائرات حربية من طراز F-16 إلى ليتوانيا؛ ترسل إسبانيا أربع طائرات مقاتلة إلى بلغاريا وثلاث سفن إلى البحر الأسود للانضمام إلى القوات البحرية لحلف شمال الأطلسي، وفرنسا مستعدة لإرسال قوات إلى رومانيا. وهولندا تخطط لإرسال طائرتين مقاتلتين من طراز F-35 إلى بلغاريا في أبريل، وتضع سفينة ووحدات برية في حالة تأهب لقوة الرد التابعة لحلف الناتو.
لم يتخذ الناتو قراراً بتفعيل قوة الرد/الاستجابة، التي تتكون من حوالي 40 ألف جندي من دول متعددة. عُزّزت هذه القوة في عام 2014 - وهو العام الذي استولت فيه روسيا على شبه جزيرة القرم الأوكرانية وتدخلت لدعم الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا - من خلال إنشاء "قوة رأس حربة" قوامها حوالي 20 ألف جندي في حالة تأهب قصوى ضمن قوة الرد الأكبر.
لكن الأمور ما تزال في تأهب اعتيادي. في وقت متأخر من يوم الاثنين طمأن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الناس وأن الوضع "تحت السيطرة" وأنه "لا يوجد سبب للذعر". وفي ذات السياق يقول وزير الدفاع أوليكسي ريزنيكوف، إنه اعتباراً من 24 ديسمبر، لم تشكل القوات المسلحة الروسية مجموعات قتالية، "مما يشير إلى أنها ستشن هجومًا غدًا". هناك سيناريوهات محفوفة بالمخاطر وممكنة ومحتملة في المستقبل، مثل هذا التهديد غير موجود." بحسب ريزنيكوف. في المواجهة الأخيرة، طالبت روسيا الغرب بضمانات بأن الناتو لن يسمح أبداً لأوكرانيا بالانضمام، وأن التحالف سيحد من الإجراءات الأخرى، مثل نشر قوات في دول الكتلة السوفيتية السابقة.
اقرأ المزيد: الولايات المتحدة جهّزت 8500 جندي للانتشار في أوروبا.. قوة رد الناتو تتحضّر
تتعاطى روسيا مع مسألة التضخم منذ سنوات فليست مشكلة مستجدة وبحاجة لحل عاجل، وأسعار النفط في حدود 88 دولار أي فوق الحد القياسي بالنصف، لكن يبدو إيجاد البدائل لبيع الإنتاج في حال العقوبات إذا حصل الغزو المحدود صعبا؛ فالدول الكبرى ملتزمة بعقود طويلة آجلة والبيع القصير ليسا مناسباً لموسكو. يجب أن لا ننسى ما يشغل بايدن الذي يبني سياسته الخارجية كما سلفه بدلالة مواجهة الصين وحلحلة العقد معها، ولديه المِلَفّ النووي الإيراني، ما يجعله جاهزاً للحوار والتسويات كما أعلن في عدة مناسبات.
لا يمكن الخلوص بأن الخسائر في الاقتصاد الروسي حتى الآن هي خسائر فعلية أو مقلقة بتعبير آخر يمكن تبرّد بوتين، بل تغيرات قيمة أصابت الأسواق الدولية عموما وستعود مع تحسن الأسواق وقد تبدأ غداً مع قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بخصوص أسعار الفائدة. إذاً ما يزال بإمكان موسكو الصمود في ظل هذا الواقع دون عقوبات موسعة. ستدفع بالأمور لخواتيمها وحسم ورقة تصدير الغاز والعقود طويلة الأجل مع الطرف الأوروبي، وحسم الصراع الذي خلقته أوكرانيا بخصوص تعويضات الترانزيت بهذه التحركات العسكرية، التي قد تنتهي بعملية عسكرية محدودة إذا لم يحصل اتفاق للضغط من أجل إحلال تسوية مرضية لموسكو على المستوى الأمني في الشان الأوكراني وسحب العقوبات.
ليفانت نيوز _ خاص
إعداد وتحرير: وائل سليمان
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!