الوضع المظلم
الجمعة ٢٦ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
الديمقراطية باعتبارها الوصفة السحرية
ماجد حبو
تلازمت في الأدبيات السياسية كلمتا "السياسة والديمقراطية" كأكثر كلمتين مكملتين لبعضهما الآخر، على الرغم من الغياب الفاضح في كثير من الأوقات لتلازمهما في ذات الجغرافيا والتاريخ السياسي معاً. وباعتبار التعريفات العديدة والمتنوعة "للسياسة"، سنكتفي في السياق بأكثر التعابير شيوعاً: السياسة هي فن إدارة الصراع بين الحاكم والمحكوم.

وفي هذا السياق أيضاً نضجت وتطورت فكرة "الديمقراطية" باعتبارها الشكل السلمي الأرقى لإدارة ذلك الصراع "اقتصاد القوة". تتميز السياسة وفق التعريف السابق باعتمادها على "القوة" في تأكيد الحاكم لسطوته وفق منحنيين اثنين: فكل سلطة تطمح في المقام الأول لتثبيت وامتداد سلطتها على كامل الجغرافيا السياسية لها، وإلى أصغر الهيئات الاجتماعية كذلك، وفي المقام الثاني إلى تأمين إعادة إنتاج نفسها في القادم من الحياة السياسية، والحال كذلك تعتمد على مجموعة من القيم والسياسات "أديولوجيا" لخدمتها في هذا المجال.
ليس من السهل وضع تاريخ محدّد للسياسة في حياة البشرية، لكن من المؤكد بأنّها بدأت مع الملكية أو قبل ذلك بقليل، واعتمدت فيما اعتمدت عليه: الأسطورة، القوة، جبروت الطبيعة، القدرة الجسدية، كثرة وعدد الأتباع من الأسرة – العشيرة، هكذا بدأت التجليات الأولى للسياسة من خلال زعيم القبيلة، بل وتلازمِ الدورين لزعيم العشيرة وكاهنها في شخص واحد.
تطور علم السياسة بتطور وتعقد المجتمعات واتّساعها، فبات من الضروري وجود هيئات لاحقة ومكملة لسلطة "السلطان – الملك – الزعيم..." مع الكلمة الفصل في كل حياة المجتمع له بلا منازع، وباتت السلطة تطمح إلى شرعية "خالدة مقدسة" لكل سياساتها، فكان الزعيم هو مشيئة الرب، وهو عناية السماء، الحاكم العادل، رغبة الجموع...
وكانت الحاجة ملحة إلى تنظيم شكل سلمي للنزاع داخل الطبقة السياسية لدرء الخطر من دخول الغوغاء إلى محراب السياسة، هكذا أوجدت الديمقراطية في حياة نبلاء اليونان "الخمسمائة المختارين – البويل" من ينظم الحياة العامة للبشر كان يتم تعيينهم وليس انتخابهم، أما من كان يحق له التصويت أو الانتخاب فهم فقط الرجال البالغون فقط من دون النساء أو الغرباء والعبيد.
هكذا كانت البداية، ثم تطورت الآلية، وخصوصاً في ظل العنف والحروب، إلى توسيع دائرة المشاركين، فلم يعد الأمر مقصوراً على النبلاء والأمراء، بل تعدّى ذلك الحق إلى الملاكين وأصحاب الثروة، فكان الناخب في إنكلترا القديمة يتحدد بحسب الدخل الذي يتمتع به، ومن ليس له جنحة أو جناية سياسية.
من المفيد الإشارة إلى أنّ الديمقراطية امتلكت "عصاها" الخاصة بها من خلال إلزام 49 بالمئة من المقترعين بسطوة أصحاب 51 بالمئة الفائزين، ويحق لهم الاحتفاظ برأيهم والنضال للوصول إلى تعديل النسب. وتقدمت الديمقراطية خطوات إلى الأمام من خلال "طرح تعديل النسب" من جديد، فجاءت الفكرة القاضية لتحقيق الفوز المتطلب نسبة 75 بالمئة من المشاركين وصولاً إلى "الإجماع" وهو نسبة مئة بالمئة.
إذا كانت السلطة تعني "قوة الحق السياسي"، فالمقابل لها هي "الحرية السياسية". ثمة خلط مقصود للتنازع بين السلطة والديمقراطية، والأصح هو بين السلطة والحرية. ذلك يشير وبوضوح إلى الحدود والترتيبات الخاصة "بالديمقراطية" كشكل لتنظيم النزاع، وليس لإلغائه أو تجاوزه، وهو ما نلحظه بوضوح في الكيانات والأيديولوجيات المتعددة، فهناك الديمقراطية الماركسية، الديمقراطية البرلمانية، الليبرالية، الشعبوية، الدينية... وهي متكيفة كما يجب مع طبيعة النزاع السياسي.
وبالعودة إلى أصل "السياسة" كفن إدارة الصراع بين الحاكم والمحكوم، يتقدم الشكل الديمقراطي مع استرخاء السلطة في مواجهة خصومها، وتتبدل الأدوار في حال التهديد الجدي للسلطة من خارج صفوفها، وتكشف السلطة عن إمكانياتها في "العنف المجرد والعاري" تحت مسميات "سطوة القانون وسلطته – الشرعية".
من المثير للملاحظة هي ذات الآلية -وبشكل أكثر جفافاً وخشونة- فيما ينظم العلاقات السياسية بين الدول، مجلس الأمن الدولي، ومنظمة الأمم المتحدة، والكثير من المنظمات الدولية، حيث تخضع العلاقات الدولية إلى "حق الاعتراض – الفيتو" عندما تتعرض دول عدة بعينها وحلفاؤها إلى الخطر الجدي، هي "الدول الخمس دائمة العضوية"، وبالتالي تذهب أدراج الرياح كل الشرعية الدولية المزعومة بقوانينها وآليات عملها الديمقراطية.
ليس ما سبق يدعو إلى رفض أو نبذ "الشكل الديمقراطي" لتنظيم النزاعات السياسية داخل المجتمعات الإنسانية، بل العكس تماماً هو المطلوب بغض النظر عن طبيعة البنى السياسية القائمة "الديمقراطية هي إرث لكل البشرية – ومن غير المجدي اختراع العجلة في كل مرة".
لابد من الاستفادة من تجارب وإبداعات الشعوب الأخرى في تجاربها الخاصة، واعتبار الديمقراطية آليه بنية قائمة بحد ذاتها وفق صيغة ما فوق سياسية. كذلك إعادة توزيع السياسة وفق مكانيزمات صغيرة داخل السلطة، أولاً، والمجتمع، تالياً، لتجنب تركيز السلطة في قلة من الأفراد، وإعادة تعريف وضبط العمل السياسي –كعمل مجتمعي دعوي، نشاط مدني– في مواجهه احتكار كل الفعل السياسي كفعل سلطة.
وبالنهاية يبقى العقل البشري خزاناً لا ينضب من الأفكار والحلول يجب خلق الظروف له كي يبصر النور. فإذا كانت السياسة "وبالاً" في بعض النواحي الحياتية، وإذا كانت الديمقراطية "ليست وصفة سحرية" لحل المشكلات، فذلك لا يعني مطلقاً الاعتزال والاستكشاف، كمن يرمى الطفل مع الغسيل الوسخ.

ماجد حبو

ليفانت - ماجد حبو

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!