الوضع المظلم
الأحد ٢٢ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • الحقيقة الإنسانية والواقع اليومي والرمزية اللغوية

الحقيقة الإنسانية والواقع اليومي والرمزية اللغوية
 إبراهيم أبو عواد 

البناءُ الاجتماعي لَيْسَ كِيَانًا وهميًّا يُفْرِز علاقاتٍ اجتماعيةً ميكانيكية، ويُنتج أنساقًا ثقافيةً جامدةً تَقُوم على الوَعْي الزائف، إنَّ البناءَ الاجتماعي هو الحاضنةُ الشرعية لِوُجُودِ المُجتمع معنويًّا وماديًّا، والمرجعيةُ الفكريةُ القادرةُ على إعادةِ أحلام الفرد إلى الحياة وتشكيلِ الهُوِيَّة الفَردية والجَمَاعية التي لا تَكْتفي بذاتها، بَلْ تَسْعَى إلى التواصلِ معَ مَصادر المعرفة التي تُحَدِّد أبعادَ سُلطة المُجتمع، والتفاعلِ معَ التجارب الحياتية التي تُحَدِّد معالمَ شخصيةِ الفرد.

وإذا كانت مَصادرُ المعرفةِ تَتَأسَّس على عَقْلانِيَّةِ الواقعِ اليَومي، فإنَّ التجارب الحياتية تَتَأسَّس على رمزيةِ الدَّلالات اللغوية. وهذا التَّشَابُكُ المعرفي مع الواقعِ واللغةِ يَحْمِي العقلَ الجَمْعِيَّ مِن العَيْشِ خارج التاريخ، ويَحْمِي التاريخَ مِن العَيْشِ خارجَ فلسفة الوَعْي. والوَعْيُ إذا اتَّصَفَ بالحَيَاةِ، والحَيَوِيَّةِ، والحُرِّيةِ في ذاته، والتَّحَرُّرِ مِن عناصرِ المنظومة الاستهلاكية المُحيطة به، سَيَتَحَوَّل إلى رافعة لفلسفة اللغة، لأنَّ اللغةَ تَستمد وُجودَها مِن الوَعْيِ لا الغَيبوبةِ المَعرفية، وتَكتسب شرعيتها مِن الخَلاصِ التاريخي لا الهُرُوبِ مِن الزمن.

مَركزيةُ اللغةِ في البناء الاجتماعي ذات طبيعة عابرة للزَّمَنِ، وغَير خاضعة للتَّجنيس المَكَاني، لأنَّ اللغةَ تَدَفُّقٌ مَعرفي مُستمر أُفقيًّا وعَمُوديًّا، وانفجارٌ رَمزي مُتواصل على صعيدِ الألفاظِ والمَعَاني. وشَبَابُ اللغةِ الدائمُ هو الضَّمانةُ الأكيدة لحماية العلاقات الاجتماعية مِن التَّشَيُّؤ (تَحَوُّل العلاقات الشخصية بين الأفراد إلى علاقات آلِيَّة بين الأشياء). وإذا صارَ الفردُ شيئًا هامشيًّا في المُجتمع، وعُنْصُرًا مُغترِبًا عن ذاته ومُحيطه، فإنَّ الفِعْلَ الاجتماعي سَيَخرج مِن فلسفة التاريخ، ويَتَشَظَّى بَين الأفكارِ الذهنية والإدراكِ الحِسِّي. وهذا التَّشَظِّي شديد الخُطورة، لأنَّه يُدخِل المُجتمعَ في مَتَاهَةِ رُدُودِ الأفعالِ والمواقفِ الارتجالية، بلا تخطيط ولا تنظيم. وكُلُّ خَلَلٍ في البناء الاجتماعي هو بالضَّرورة خَلَلٌ في مَنطق اللغة الرَّمزي، وإذا غابَ اليقينُ عن العلاقات الاجتماعية، فإنَّ شرعية المُجتمع سَتُصبح وَهْمًا مُكَرَّسًا بِفِعْلِ الأمرِ الواقعِ، ومُعتمِدًا على عوامل مَصلحية مُؤقَّتة، بلا مبادئ عقلانية ذاتية، ولا جُذور تاريخية ضاربة في الأعماق. وكُلُّ شَجرة تعتمد في الثَّبات على غَير جُذورها، سَتَسْقُط معَ هُبُوبِ الرِّياح.

لا مَعنى للوَعْيِ خارج عملية التفاعل النَّقْدِي معَ الأنساق الثقافية التَّحَرُّرِيَّةِ لا الفَوْضَوِيَّةِ، ولا قيمة للفِكْرِ خارج نطاق الفِعْلِ الاجتماعي القائم على قُوَّةِ المَنطقِ لا مَنطقِ القُوَّة. وَهَذَان المَبْدَآن يُحَدِّدَان طبيعةَ الحقيقةِ الإنسانية القائمة على العقلانيةِ لا الاضطهادِ، ويُكَوِّنان ماهيَّةَ الواقعِ اليَومي القائم على الاختيار لا الاضطرار، ويَصنعان هُوِيَّةَ الرمزيةِ اللغوية القائمة على التَّمحيصِ لا التَّقديسِ. وهذا يَعْني أنَّ قواعد البناء الاجتماعي هي: الحقيقة الإنسانية، والواقع اليَومي، والرمزية اللغوية. وهذه القواعدُ الثلاث تتبادل الأدوارَ فِيما بَينها، لأنَّ البناءَ الاجتماعي لَيْسَ كُتْلَةً أسْمَنْتِيَّةً أوْ إطارًا حَجَرِيًّا أوْ شكلًا ثابتًا، وإنَّما هو بناءٌ وُجودي يَمتاز بالحركةِ والمُرُونةِ والانطلاقِ، والقُدرةِ على تبديلِ الأنساقِ الثقافية، والقوالبِ الفِكرية، والسِّيَاقاتِ الزمنية، والتجاربِ الحياتية، وتغييرِ زوايا الرُّؤية للأحداثِ اليوميةِ والوقائعِ التاريخيةِ. وكُلُّ بناءٍ اجتماعيٍّ هو بالضَّرورة بُنيةٌ معرفية، وسيظلُّ الوَعْيُ عُنصرًا أساسيًّا في تَكوينِ الفِعْل الاجتماعي في البيئة المُعَاشة، وإعادةِ إنتاج النظام اللغوي لِيَصِيرَ دَليلًا على الحقيقةِ الإنسانيةِ، ودَلالةً على تَجاوزِ الفرد لذاته في رحلته لاكتشافِ وُجُودِه في المُجتمعِ، وَوُجُودِ المُجتمعِ في التَّحَوُّلات الحضاريةِ مَحَلِّيًّا وعالميًّا.

الوَعْيُ النَّقْدِيُّ في المُجتمع لَيْسَ نَسَقًا أُحَادِيًّا، وإنَّما هو شَبَكَةٌ مُعَقَّدَةٌ مِن العلاقاتِ الاجتماعيةِ، والمعاييرِ العقلانيةِ، والأنساقِ الثقافية. وهذه الشَّبَكَةُ تُؤَسِّس مناهجَ لُغَوِيَّةً قادرة على تفسير الرابطة بين المعرفةِ والمصلحةِ مِن جِهَة، وبين التاريخِ والسُّلطةِ مِن جِهَة أُخْرَى. وهذا يدلُّ على أنَّ التأويلَ اللغوي هو الحَكَمُ بَين عناصرِ البناء الاجتماعي، والحاكمُ على إفرازاتِ الواقع اليومي، لأنَّ اللغةَ وَحْدَهَا هي القادرة على تخليدِ اللحظة الآنِيَّة، ونَقْلِها عبر مراحل الزمن. وكُلُّ مُجتمعٍ خارج اللغة يُعْتَبَر وَهْمًا لا هُوِيَّة له ولا ماهيَّة، وكُلُّ واقعٍ خارج اللغة يُعْتَبَر فَرَاغًا لا كِيَان له ولا كَينونة، مِمَّا يُشير إلى أنَّ اللغةَ هي المَرجعيةُ الوُجوديةُ التي تُقَدِّمُ الحقيقةَ الإنسانيةَ أوْ تَسْلُبُها، والشَّرعيةُ المعرفيةُ التي تُفَسِّر الفِعْلَ الاجتماعي كَنُقطةِ تَوَازُن بين العقلِ الجَمْعِي والسُّلوكِ الأخلاقي.

ليفانت - إبراهيم أبو عواد

 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!