الوضع المظلم
السبت ٢٣ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الحربُ الأوكرانية وقبلةُ الحياة الملعونة
عبير نصر

لم يبدِ نظامٌ حماسةً لحرب بوتين على أوكرانيا بقدر حماسة النظام السوري. هذه الحماسة متوقعة بطبيعة الحال، فغزو أوكرانيا بدأ من سوريا، وتحديداً من ذلك الصمت الذي أبداه الغرب حيال موبقة القيصر الروسي الأولى. وعليه تحولت البلاد المنكوبة إلى محمية روسية، والأسد ليس أكثر من دمية بيد موسكو تارة، وطهران تارة أخرى التي دعمت النظام السوري مادياً وبشرياً منذ الأشهر الأولى لاندلاع الثورة.

ويقدر خبراء اقتصاديون إنفاق إيران أكثر من ستة مليارات دولار، والمئات من الجنود خلال الحرب السورية، إضافة إلى قروض ائتمانية بملايين الدولارات. وقد طالب مستشار المرشد الإيراني للشؤون الاستراتيجية، رحيم صفوي، بتعويض طهران عن "التضحيات والتكاليف التي قدمتها وهي تحارب الإرهاب في سوريا، مع إمكانية توقيع معاهدات مشابهة لما حصلت عليه موسكو من معاهدات استعادت عبرها ما قدمته لسوريا"، حسب قوله. الواضح الجليّ اليوم أن رهان إيران بانشغال روسيا في أوكرانيا سيسمح لها بـ"الاستفراد" في سوريا، أو على الأقل بـمناطق حليفها الرسمي. بينما رهان دمشق أن انشغال موسكو بالوصول إلى كييف سيعطيها هامشاً أوسع مع طهران، أي حضن حليف على حساب آخر.

مؤشرات ذلك كانت صريحة، إذ ما إن انطلقت شرارة الحرب الأوكرانية، بعد أيام من زيارة وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، "قاعدة حميميم"، حتى توجه مدير الأمن الوطني السوري علي مملوك إلى طهران، واستقبلت دمشق نائب وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي. هناك الكلام في الأمن والعسكر والاقتصاد، وهنا الحديث بالدبلوماسية. زيارة شويغو عكست بوضوح أن موسكو باتت تنظر إلى سوريا وقاعدة حميميم ضمن استراتيجيتها الدولية وطموحاتها في أوكرانيا. ولم تمانع دمشق في ذلك، بل إنها قدمت كل الدعم الخطابي لحرب "روسيا الأم" في "روسيا الصغرى".

في الواقع مشكلة النظام السوري تكمن في أنّ روسيا ستكون مشغولة عسكرياً في الفترة المقبلة، كما أنها ستكون عاجزة اقتصادياً وعرضة لعقوبات قاسية، بينما دمشق و"حلقتها الضيقة" في أمسّ الحاجة لبعض الأكسجين إلى مناطقها. وعليه لم تمانع الأخيرة، من وصول تعزيزات ضخمة من الحرس الثوري الإيراني، إلى مستودعات مهين العسكرية شرق حمص، ضمت نحو /40/ آلية عسكرية، وأكثر من /17/ سيارة وشاحنة بيك آب، مزودة برشاشات متوسطة وأخرى تقلّ عناصر من حزب الله اللبناني، بالإضافة إلى عدد من العربات المصفحة والآليات العسكرية للفرقة الرابعة في قوات النظام، وذلك وفقاً لما أفادت به مصادر محلية، أكدت أنّ هذه التحركات جاءت عقب انسحاب كامل للقوات الروسية، بما في ذلك عناصر من مجموعات "فاغنر" ونحو مائتي عنصر من "الفيلق الخامس" الموالي لروسيا، إضافة إلى أكثر من /23/ آلية عسكرية وعدد من السيارات المحملة بالذخائر والمواد اللوجستية وأجهزة اتصالات. وتابعت المصادر أنّ القوات المنسحبة توجهت باتجاه مطار تدمر العسكري، مشيرة إلى أنّ خمس طائرات مروحية رافقت القوات الروسية أثناء انسحابها من مستودعات مهين، وبهذه العملية باتت المستودعات الاستراتيجية خاضعة كلياً للميليشيات الإيرانية والفرقة الرابعة وحزب الله اللبناني.

يذكر أنّ هذه التطورات جاءت مع ما صرّح به وزير الدفاع الإٍسرائيلي، بيني غانتس، حول إمكانية بلاده مواصلة ضرب أهداف إيرانية في سوريا، وسط تحركات مكثفة وغير اعتيادية للميليشيات التابعة لإيران في مناطق مختلفة من الأراضي السورية، تتمثل تلك التحركات بعمليات إعادة انتشار وتموضع خوفاً من أي عمليات استهداف إسرائيلية. وفي الحقيقة تتعدد أوجه السيطرة والتدخلات الإيرانية في سوريا، ما بين دعم الميليشيات وتجنيد المرتزقة من جهة، والسيطرة على العقارات والموارد الرئيسة من جهة أخرى، وسط استغلال مهينٍ لظروف السوريين المعيشية البائسة. يدلّل على هذا أنّ وزارة مالية النظام السوري أصدرت تقريراً جاء فيه: "إن عدد عقود البيوع العقارية المنفذة من بداية العام الجاري 2022  ولغاية 7 نيسان، بلغ 116.2 ألف عقد، متوسط يومي 1993 عقداً".

ويؤكد مراقبون أن أغلب عمليات البيع تتم عبر سماسرة يعملون لصالح جهات ومؤسسات إيرانية وبمناطق محددة من سوريا. وبحسب تقرير وزارة المالية الأسبوعي للبيوع العقارية، حصلت محافظة ريف دمشق على أعلى حصة من عقود البيع المنفذة منذ بداية العام، إذ بلغت 25.8% من الإجمالي، تليها اللاذقية بنسبة 11.8%، ثم حلب بنسبة 11.7%. يزيد الطين بلّة أنه لا مناص أمام السوريين من البيع أو التنازل عن عقاراتهم، ولعلّ الحرائق التي تعود وتلتهم الأسواق القديمة داخل دمشق بين الفينة والأخرى، برهانٌ قوي على تورط إيران في عمليات النقل والاستيلاء على أملاك السوريين، الذين يدركون في قرارة أنفسهم أنّ أسباب الحرائق التي تُعزا دائماً إلى الماسات الكهربائية، أو أحياناً تُسجل ضد مجهول، سببها الإيرانيون الذين يحاولون السطو على الأماكن المهمة في دمشق، وخصوصاً وسط المدينة التاريخي ومحيط الجامع الأموي الشهير. ومنع سيارات الإطفاء من الوصول إلى أماكن الحرائق من قبل الحواجز الأمنية خير دليل على ذلك.

في سياقٍ متصل، ثمة سؤال ملحّ لا بدّ طرحه هنا: هل الحرب الأوكرانية التي أنعشت الحلم الإيراني في العودة، ذاتها تمنح قبلة الحياة إلى تنظيم داعش وأحلامه في عودة دولة الخلافة الإسلامية؟ بينما المعطيات تذهب باتجاه أنّ الحرب الدائرة ستفضي إلى مستقبلٍ تتخلله حروب بالوكالة، لا شك هي الرهان الأكبر بين موسكو والغرب في معركة الاستنزاف السورية. يؤكد هذا تصاعد عمليات تنظيم "داعش" وسط سوريا خلال شهر مارس/ آذار الماضي، في مؤشر مقلق على عودة نشاط التنظيم الإرهابي في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، مستغلاً فرصة انشغال روسيا بحرب أوكرانيا. وفعلياً نفّذ التنظيم /17/ هجوماً مؤكداً أسفروا عن قتل /25/ من مقاتلي الجماعات الموالية، على الأقل، وجرح ما لا يقل عن /28/  آخرين في محافظات حمص ودير الزور والرقة وحلب وحماة.

يؤكد خطورة الأمر إنهاء العراق بناء حاجز خرساني بدءاً من قضاء سنجار العراقي، المقابل للأراضي السورية شرق مدينة الشدادي بريف الحسكة الجنوبي، في منطقة ما تزال تنشط فيها خلايا تنظيم داعش الإرهابي، حسب ما أكده مصدر عسكري عراقي رفيع، موضحاً أنه "تمّ نشر قوات أمنية خلف هذا الساتر" الذي يبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار ونصف المتر، ويمتدّ عشرة كيلومترات. ووفق صحيفة واشنطن بوست فإنّ "مقاتلي التنظيم الذين كان يُعتقد أنهم هزموا إلى حدّ كبير، ربما أعادوا بناء قدرات قتالية أكثر تقدماً مما كان معروفاً في السابق". وأوضحت الصحيفة: "الملاحظ خلال السنوات الأخيرة، أنّ داعش أعاد لملمة أوراقه وزاد من وتيرة هجماته في أكثر من صعيد، ما يعني أن حلم العودة ما زال يراوده مرة أخرى وبالتالي لن تأمن البلاد من مكره وشره".

صفوة القول إن انفجار الحرب الأوكرانية كانت نقطة انعطاف تاريخية في ملفات كثيرة، ودون أدنى شك سوريا من بينها. لكن هذه الانعطافة الجديدة لن تكون الأخيرة، كما عودتنا سوريا في آخر /11/ سنة. دمشق تنحاز عملياً لطهران، وتبقى كلامياً مع موسكو، وداعش يلعب بينهما. فالمرحلة المقبلة ستكشف عن منعكسات الربط بين ملفَيّ دولتين وشعبين: "أوكرانيا الشرق أوروبية، وسوريا الشرق أوسطية".

ليفانت - عبير نصر

كاريكاتير

قطر تغلق مكاتب حماس

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!