الوضع المظلم
السبت ٢٠ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
الجوع كافر وقاتل.. التجويع كجريمة حرب منظمة في سوريا
منصور حسنو

نعرف جميعاً المستوى التنظيمي والإنساني الذي وصلت إليه فكرة حقوق الإنسان، في منتصف القرن العشرين وحتى اليوم، وقد شمل هذا التنظيم حزمة كبيرة ومتطورة من القوانيين والمواد المتعلقة بحقوق الإنسان في أي مكان من العالم، بغض النظر عن أصله وجنسه وعرقه ودينه. من هذه القوانيين الهامة الإعلان العالمي الخاص باستئصال الجوع وسوء التغذية والذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974.

جاء في البند الأول لهذا الإعلان ما يلي: "لكل رجل وامرأة وطفل حق، غير قابل للتصرف، في أن يتحرر من الجوع وسوء التغذية لكي ينمي قدراته الجسدية والعقلية إنماء كاملاً ويحافظ عليها، إن مجتمع اليوم يملك فعلاً من الموارد والقدرات التنظيمية والتكنولوجيا، وبالتالي من الكفاءة، ما يكفي لتحقيق هذا الهدف، ولذلك فإن استئصال الجوع هدف مشترك لكافة بلدان المجتمع الدولي، وخاصة منها البلدان المتقدمة النمو والبلدان الأخرى القادرة على المساعدة".

مرت بعض المجتمعات البشرية في سلسلة التاريخ القديم والحديث لظروف قاسية تتعلّق بشح الموارد وسوء التغذية، ما جعل هذه المجتمعات تعاني من الجوع والأمراض والموت، ولكن ما يستوقف الباحث أنّ كثيراً من تلك المجتمعات وهذه الظروف لم تكن من صناعة السماء وقلة الأمطار وإن وجدت في كثير من الأحيان، بل كانت من صناعة البشر أنفسهم، تارة بسبب الحروب الأهلية أو الحروب الكبرى، ومنها الحرب العالمية الأولى والثانية، وتارة بسبب الحصار والرغبة في الإهانة والإذلال برغبة الترويض والاستسلام أو ربما وسيلة للهلاك والتصفية الجسدية. حتى إنّ الله خاطب قريش في سورة قرآنية بأن تعظم البيت الحرام لما له من دور في تحقيق الأمن النفسي والغذائي لقريش يومذاك "فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف".

وإذا كانت الدولة الحديثة تلزم أفرادها بطاعة قوانينها لما فيه مصلحة هؤلاء الأفراد، فإنّ واجب الدولة تحقيق الأمان النفسي والاجتماعي من جهة، وتحقيق الأمن المعاشي والغذائي لأفرادها من جهة ثانية، وعندما تختل تلك العلاقة والوظيفة بين الشعب والدولة يصبح المجتمع والدولة في حالة تضاد قد تقود إلى الفوضى والصراع والثورات، حتى إنّ رجلاً مثل أبي ذر الغفاري كان يقول: "عجبت لمن لا يجد قوت يومه ألاّ يخرج على الناس شاهراً سيفه". هو يريد أن يقول: عندما أجوع فلي حق في هذا المجتمع وهذه الدولة.

لم يقتصر تطور القوانين الدولية والنقاشات الحقوقية حول مسألة الغذاء، وعن واجب الدول مناصرة بعضها وإغاثة الشعوب التي تعاني من سوء التغذية، بل تطور الأمر ليشمل مناقشة التجويع والحصار عندما يكون ممنهجاً ومقصوداً بسبب الحروب الأهلية أو بسبب نكوص الحكومات عن أداء واجباتها، فالقانون الدولي يحظر استخدام الحصار والتجويع كتكتيك في الحرب.

أساليب التوحش التي سلكتها الأنظمة الشمولية الديكتاتورية أو التنظيمات الاجتماعية العرقية العنصرية، دفعت العقل القانوني والحقوقي لمثل هذه المناقشات والحوارات والصياغات في أروقة المنظمات الحقوقية الكبرى التابعة للأمم المتحدة، وقد رأت البشرية كيف أفضى حصار ستالين لأوكرانيا وتجويعها إلى مقتل 3.3 مليون أوكراني، وحصار هتلر لـ لينينغراد عام 1941-1944 وتسببه في مقتل مليون شخص، ومثله عشرات الحوادث الموثقة في تجويع سراييفو بين عام 1992 وعام 1995، والمشكلة أنّ ذلك التكتيك الحربي اللئيم والمجاعات الممنهجة كانت من أنظمة مؤدلجة بالاشتراكية ونظريات العدالة الاجتماعية. وقل مثل ذلك عن حصار وتجويع العراق وحرب اليمن والصومال ونيجريا والحرب الأهلية بين شمال السودان وجنوبه.

أدرج نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية لعام 2002 التجويع المتعمد كجريمة حرب، وجاء في المادة 8 الفقرة 2 إلى أنّ التجويع كجريمة حرب لا يتطلب دليلاً على موت المدنيين. أي وجود التجويع سواء تسبب في الموت المباشر او لم يتسبب يعتبر جريمة حرب.

مع الانتفاضة السورية 2011 لم يكن الحصار والتجويع أسلوب النظام في وأد الانتفاضة أو الشباب والأحياء المنتفضة، بل كان الاعتقال والتصفية والتعذيب، حتى إنّ جماهير الشعب المنتفضة أرادت أن تقول للنظام ليس بسبب الجوع خرجنا نردد الحرية (يا بثينة يا شعبان الشعب السوري مش جوعان) بل هو شعب يريد الحرية والكرامة.

ولكن مع تصاعد العنف والعنف المضاد وتشكل ميليشيات أهلية تساند النظام وميليشيات شعبية عسكرية تقاوم النظام، بدأ النظام السوري يلجأ إلى أسلوب الحصار والتجويع وذلك لإرغام تلك الأحياء أو المناطق على الاستسلام، وقد رأينا صور الناس التي تموت جوعاً في حصار مضايا والزبداني، أو صورة عشرات الألوف في مخيم اليرموك وهي أخرجها الجوع.

أسلوب جديد في الحروب ابتدعه النظام السوري والميليشيات المرتبطة به يضاف إلى الحصار والتجويع هو الابتزاز، فمع الأموال التي تدفقت على الميليشيات الإسلامية المسلحة من الخارج كانت هذه الميليشيات تدفع رشاوى كبيرة لميليشيات النظام لقاء تهريب المواد الغذائية والخبز إلى الأحياء المحاصرة، كما في  الغوطة الشرقية مثلاً.

تراجيديا التجويع والحصار في سوريا لم تقف عند الأحياء والمناطق الخارجة عن سيطرة النظام والتي استسلمت معظمها مؤخراً له، بل تعدت لتشمل سوريا كلها، الأحياء والمدن التي يسيطر عليها النظام والأحياء الخارجة عن سيطرته أو المخيمات التي صارت مأوى للمهجرين والهاربين من الحكومة السورية، لقد استوى المؤيد والمعارض والصامت والرمادي أمام هجمة الحصار المفروض على سوريا أو أمام تهاوي الليرة السورية وضعف القدرة الشرائية إلى مستويات مخيفة وخطيرة، بل شملت المعاناة السورية والضائقة المعاشية حتى لمن باركوا النظام في معركته ضد الإرهاب.

من عام 2019 وإلى اليوم، يبدو أنّ التجويع السوري وموت الليرة السورية ليس له هدف استراتيجي أو تكتيك حربي لإذلال الخصم أو العدو، سيما وأننا نرى ذلك الحصار والتجويع يضرب سوريا كلها من بحرها إلى نهرها، على درجات متفاوتة في شدة الحصار أو فقدان القوة الشرائية وإنّما له هدف كبير وخطير فيما لو استمرت محنة التجويع والحصار لسنة واحدة أخرى أو بضع سنوات ونحن لدينا أمثلة بعيدة وقريبة من التاريخ من تقسيم يوغسلافيا إلى تقسيم السودان إلى تحطيم العراق.

علمياً، حتى اليوم، لست مقتنعاً بوقوع حرب أهلية في سوريا، كما يروّج في القراءات الغربية والصحفية لما جرى في سوريا رغم فجاعة المقتلة السورية، ولكنها لم تشهد حرباً أهلية حتى اليوم، وهذا المعنى يتضمن مديحاً  للعمق الاجتماعي السوري عموماً والمجتمع العلوي – السني خصوصاً، مديحاً لمعنى يؤسس وينقذ سوريا، لا يوجد حرب علوية سنية، لو كانت كذلك لقلت بوقوع حرب أهلية في سوريا، بل الذي جرى هو صراع بين سلطة ديكتاتورية تقودها عصابة منظمة مع عصابات حملت السلاح عليها، لا العصابة استهدفت السنة لأنهم سنة، ولا العصابات استهدفت الجيش أو الضباط لأنّهم علويون.

وفق هذه القراءة للمقتلة السورية، فإنّ أي توافق على الحل السوري ورحيل الأسد يعني عودة المجتمع السوري إلى عمقه الأصيل واستعادة توازنه المفقود وهذا يعني بالضرورة وحدة سوريا، في حين أنّ استمرار التجويع والحصار ربما يقود إلى التقسيم وربما الفوضى أو التهجير مرة أخرى، وللأسف الشديد يبدو هو الهدف البعيد للمجاعة السورية والتي ليس الأسد هو وحده من يقف خلف هذا الحصار وهذا التجويع.

ليس مطلوباً من الجائعين اليوم في سوريا التي تخضع للنظام، أن تخرج الناس شاهرة سيوفها كما أراد أبو ذر، بل يكفي أن تشهر ألسنتها وترفع صوتها في وجوه من أوصل سوريا إلى هذا البؤس والجحيم.

 

منصور حسنو

ليفانت - منصور حسنو

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!