-
الثقافة والمثقف والسلطة
اعتبر سارتر الفيلسوف الوجودي الفرنسي في كتاباته، أن الانسان ليس له الخيار في أن يكون حراً أو لا يكون كذلك، بل هو محكوم بالحرية. ولكن باعتبار أن الثقافة هي نتاج إنساني تنبع من الانسان وتتركز حوله، بكل ما تشتمل عليه، وتتضمنه، يصبح الموضوع مختلفاً نوعاً ما.
لا يولد الانسان مثقفا، بل عليه أن يسعى ليكون كذلك، وقد ينجح في مسعاه وقد يخفق، ففي إطار الفعل، يصبح لكل شخص الحرية المطلقة ضمن شرط النسبية، في أن يكون مثقفاً أو لا يكون، وكما قيل مع القوة تأتي المسؤولية، كذلك مع الثقافة يأتي الواجب. وإذا كانت الثقافة هي ما يجعل الإنسان مثقفا بالمعنى الاصطلاحي المعاصر، فإن المثقف هو من مهنته استهلاك الموارد الفكرية والمساهمة في نشرها وانتاجها، بحسب المفكر الراحل محمد عبد الجابري الذي عرف الخطاب باعتباره مقولة الكاتب، على أنه بناء من الأفكار إذا تعلق بوجهة نظر، يعبر عنها استدلاليا، على شكل مقدمات ونتائج. والمثقف ليس منسلخاً عن الواقع، حيث يرى علي حرب أن للمثقف مهمة نضالية، تكمن في اهتمامه بالقضايا العامة، والدفاع عن الحريات، والانخراط المباشر في العمل، لتغيير الواقع الاجتماعي والسياسي، من خلال تبنيه لخيارات معينة.
كل مثقف إما يمتلك خطابا ً خاصا به، أو يكون في مجمل ما يقدم انعكاسا لخطاب آخر. قد يوجد تشابه في الشروط والمعطيات والأسس والمبادئ مع الغرب، ولكن ليس بالضرورة أن يؤدي التشابه إلى النتائج ذاتها. ففي ضوء اختلاف التركيبة الاجتماعية، والظروف والعوامل الاقتصادية، والأنساق المعرفية، دائما ما يوجد اختلاف حاد.
يولد المثقف هنا من رحم المعاناة، ليجد سوط الجلاد بانتظاره، كتوقيع مستعجل لشهادة الميلاد. فإما أن يقبض بيديه العاريتين على السوط، ويتلقى بصدره الضربات، كي يسمع العالم أنين الآلاف في صدى صرخته، أو أن يستحيل إلى مواء ناعم لقط أليف. حيث أن من جماليات الحياة، إفساح المجال للاختيار، ما بين التحليق في كإمكانيات لا متناهية يثريها العمق الانساني، أو أن نكون مجرد ظلالا تتلاشى. و على اعتبار أن المثقف من حيث هو كذلك، وبحكم الضرورة بحاجة إلى وسط يحتضنه، فهو لا ينشأ محلقاً في الفراغ خارج المنظومة المجتمعية، ولكن إليه يرجع اتخاذ القرار إما بالانكماش والتخافت، أو القيام بصياغة الذات على نحو لا يسعى للتماهي مع المجتمع، بل يعمل على تفتح إمكانياته بما يتيح لها الاسهام في نمو المجتمع، من خلال تلمس العوائق وازالتها، وازاحة كل ما يكرس الجمود، ويعيق الإبداع.
العلاقة بين الثقافة والسلطة علاقة مركبة تتضمن بعدا ًجدليا، وصراعا بين نقيضين لا يمكن لهما التعايش معاً في إطار علاقة متوازنة، وفي أحيان كثيرة تكون الثقافة هي الطرف الاضعف، أو أن وجود أحدهما يقتضي إنتفاء الآخر. الواقع يظهر أن الثقافة بكل تجلياتها، لطالما عملت في خدمة السلطة، بأكثر مما عملت السلطة على خدمتها. إضافة إلى أن التجهيل والتغييب والتخدير، هي وسائل السلطة لإقصاء كل وعي مستنير أو في طور الاستنارة عن الواقع. وقد أوضحت التجربة، أن المثقف الذي يقارب السياسة في ظل السلطان، يسيس الثقافة ولا يثقف السياسة.
قيل سابقاً بأن الثقافة هي أن تعرف شيئا عن كل شيء وأن تعرف كل شيء عن شيء بعينه. ما يجري على صعيد السلطة هو الادعاء المتعاظم بمعرفة كل شيء عن كل شيء، مع عدم معرفة أي شيء عن أي شيء. يقول غوبلز وزير الاعلام والدعاية الهتلري، عندما أسمع كلمة مثقف أضع يدي على مسدسي، وعلى ما يبدو في وقتنا الراهن، أنه لم يعد بحاجة للقيام بذلك. فالثقافة عند خضوعها للسلطة تصبح أيدلوجيا، يتم توظيفها لتحويل المجتمع الى كم متجانس، تسوده قيم الطاعة والخضوع. عندما يتصادم المثقف والواقع الذي تمثله السلطة كثيراً ما يكون الانتحار هو نهاية غير مرتقبة لهذا الصدام، انتحار يوكيو ميشيما الكاتب الياباني الحائز على نوبل مثال على ذلك. السلطة تنجب مثقفها الذي يدافع عنها، ويبرر كل أفعالها، لأنه يدافع في الوقت نفسه عن مصالحه فبمقدار ما تسخره السلطة كي يكون بوقا ًلها، كذلك يقوم بالمثل كي تكرسه وتحمي مصالحه، حيث ولى مفهوم المثقف الرسولي ربما إلى غير رجعة.
فيما سبق كان الشاعر يمتلك حساً يكاد يكون رؤيوياً، والشواهد على ذلك كثيرة، حيث البصيرة والحدس يلعبان دورا أساسيا في تشكيل القصيدة، وإبداع الخطاب الشعري. ولكن الإحاطة بالواقع وتشريح مفرداته يتطلبان ما هو أكثر، في إطار الرصد والتحليل واستخلاص المعطيات، بحاجة والمنهج والبصيرة. من المشروع الطموح الى وجود تكامل ما بين السلطة والثقافة، في ظل مركزية الانسان بالقلب منهما، وفي حيز إقصاء الأيديولوجيا الساعية إلى تدجين وتغييب الصوت الآخر، تفضي إلى التشاركية والتفتح والنمو في إطار جدلي، يسمح لكل الإمكانات بالتفتح بدلا ً من إلغاءها، وليس لصراع وجودي يبدأ بتهميش الآخر، ينتهي بتدميره.
الثقافة بعيدا عن هموم الناس ووجعهم، هي انعزال في برج عاجي، يطل من نافذة صماء، على فناء الذات، حيث الصمت الموحش هو ما يسود، وانعكاس يتكرر عبر المرايا، التي تكمن مهمتها في إشباع هاجس العظمة، وتضخم الذات.
ترتبط الثقافة بالتغيير والثورة على الواقع، وكسر القيود، والعمل على تجاوز كل ما يحول دون ارتقاء الانسان. ولا تقوم على تكريس وجود و مصالح فئة محددة، على حساب سائر مكونات المجتمع، متكئة على عدة مفاهيمية، وخطابية شعاراتية، عفى عليها الزمن. بأن ما هو قائم، يجسد أقصى ما يمكن الوصول إليه, وان العالم المتشكل يوافق مقولة الفيلسوف الألماني ليبنتز حول أفضل العوالم الممكنة.
لا يمكن الحديث عن الثقافة بدون التركيز على البعد المجتمعي من خلال الوظيفة المنوطة بها ، ولا عن المثقف خارج الإطار المجتمعي، والدور الموكل إليه. ليس للمثقف أن يكون لامنتمياً في الوقت الذي يعلن فيه أنه متجذر في المجتمع، وليس لنا أن نفرض الوصاية عليه، بل هو الوصي على نفسه، في دائرة الشعور بالمسؤولية النابعة من الذات. و للمثقف أن يكون متمرداً على التأطير والتخلف وتغييب الوعي، وأن يقول لا، حين يقال حذار من الذين لا يعرفون سوى أن يقولوا نعم. كما نه لا يختبئ وراء شهادات مزيفة، كي يصرخ كما يحلو له، متحصنا بقطعة من ورق، فهي لا تعد صك براءة يتيح له أن يتصرف كما يحلو له، بل ثمة ضوابط مهمتها إزالة الفوضى، ووضع النواظم التي تسهم في المسير نحو الرقي.
في حوار السيد والعبد البابلي الشهير، الذي يعود إلى فترة ثلاثة آلاف عام، يترك العبد سيده المتردد ما بين الفعل والاقدام، وما بين الفعل والإحجام، في صراع وجودي ما بين الرغبات والأمنيات، كي ينضم إلى المدن المنسية التي تكابد دفاعاً عن حقها في الوجود، والتخلص من السلبية والاكتفاء بالمشاهدة، والانخراط في صميم الفعل التحرري، كي يكون شاهداً على العصر. تاركاً المجال مفتوحاً لنا، عسى أن نفكر بالسير على خطاه. وبذلك ينال حريته ويتخلص من العبودية التي يخضع لها، من خلال الانغماس في الفعل، الذي يرفع عالياً صوت الحياة في وجه الطغاة.
شريف حسني الشريف
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!