الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • "التاريخ يعيد نفسه مرتين، المرة الأولى كمأساة والثانية كمهزلة"

مصطفى سعد

وقد ترد في بعض الترجمات كملهاة، لكن ما نعيشه جعلني أختار كلمة مهزلة أو مسخرة وأستبعد كلمة ملهاة لأن الملهاة أولاً وأخيراً فن له قواعد وأصول.


ولن أرجع بالتاريخ طويلاً للحديث عن أول مآسينا بل سأكتفي بالقول أنً ما مثلته المسألة الشرقية وتبلور في سايكس بيكو عام 1916 بتوزيع تركة الرجل المريض وتقاسم كعكة دسمة بين القوتين الأبرز والامبراطوريتين الأقوى في حينها بريطانيا وفرنسا مازال قائما إلى يومنا هذا وإلى أجل غير مسمى لكن بشكل وأسلوب حديث يناسب هذا القرن.


إنّ ما تشهده هذه المنطقة من متغيرات ليس وليد الساعة بل نتيجة سياسات وأفكار ورؤى يتم العمل فيها وعليها منذ عقود، طبعاً هذا لا يعني أن كل هذا الفشل الذي نعيشه الآن وفي كل المجالات السياسية والاقتصادية والحقوقية والبيئية.. إلخ سببه المؤامرة على الإسلام أو سوريا أو غيرها من الأعذار التي تروج لها الأنظمة التي أخفقت في أن تنهض بشعوبها لتصنع دولة بالمفهوم الحديث للدولة.


من أهم تلك السياسات التي تتبلور الآن بشكل أكثر وضوحاً مما سبق تثبيت مفهوم "الشرق الأوسط الجديد" والذي يعود في الأصل لشيمون بيريز رئيس الوزراء الأسبق في حينها عندما طرح هذا المفهوم عبر كتابه الذي حمل ذات الاسم عام 1994. أي بعد عام من إنجاز التسوية الأمريكية للملف الفلسطيني الإسرائيلي، التسوية التي عرفت باتفاق أوسلو بعد مفاوضات خاضها الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل اسحق رابين. (وقع الاتفاقية محمود عباس من الجانب الفلسطيني بوصفه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وشيمون بيريز من الجانب الإسرائيلي بوصفه وزيراً للخارجية في حديقة البيت الأبيض يوم 13 أيلول من عام 1993بحضور كل من ياسر عرفات واسحق رابين والرئيس الأمريكي بيل كلينتون ووزير خارجيته وارن كريستوفر).


بعد أوسلو بدا أن المنطقة على أبواب مرجلة جديدة والتوقيت هو الأنسب للبدء بمشروع شرق أوسط جديد لا تغير فيه إسرائيل من سياستها ونهجها الاستعماريين ولا تستبدل أهدافها الاستراتيجية ومشروعها الامبريالي الأصلي.


تُستبدل القبعة لكن مع الحفاظ على الرأس نفسه وتضخم في الجسد، وهذا ما تحدث عنه اسحق رابين قبل اغتياله عندما سخر من معارضيه في حزب الليكود حيث قال:" هؤلاء يقيسون قوة إسرائيل بمساحة ما تحتله من أراضٍ، أما نحن فنقيس قوة إسرائيل بما تسيطر عليه من أسواق".


لم يبق المشروع كما هو بل تطور مع مطلع الفية الثالثة خصوصاً في أعقاب 11 أيلول وما جرى بعدها كاحتلال لعراق وتدمير بنيته المؤسسية المجتمعية بعد سنوات من الحصار مع ترافق مع تمكين قواعد للولايات المتحدة في المنطقة أهمها في دول الخليج.


أدى ذلك إلى مزيدا من الضعف والتفكك والتبعية لدى الدول العربية، وتم الترويج لطرح أمريكي جديد مستحدث من الطرح الإسرائيلي وهو "الشرق الأوسط الكبير"، تبنى المشروع الرئيس جورج بوش وأركان حربه، وفي مقدمتهم وزيرة الخارجية كونداليزا رايس ونائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع رامسفيلد.


 


كلما سبق هدفه تمييع الهويات لشعوب المنطقة وطنية كانت أم قومية واستبدالها بهوية "مشوشة" وتذويب المنطقة في كيان بدون معالم محددة إلا تبعيته للسيطرة الإسرائيلية المباشرة، وليس لأسباب عقائدية وايديولوجية بل لأنها عقيدة الامبريالية المهيمنة على هذا الكوكب.


تثمر النتائج الآن بعد عقود من الهزائم أمام اسرائيل وانتصار للأنظمة على شعوبها تبدأ تلك الأنظمة العربية بالتطبيع مع إسرائيل "من فوق الطاولة".


وللمزيد من الانحطاط نسمع خطب وكلمات عن تمسكهم بالقضية الفلسطينية وشعب فلسطين.


فلسطين ليست مركزاً دينياً فلسطين ليست قبلة للمصلين ليست حجارة القدس العتيقة ولا الأقصى ولا كنيسة القيامة ليست القدس وبيت لحم ورام الله وغزة والضفة.


أن تنتصر لفلسطين ولشعب فلسطين يعني ان تنتصر للعدالة يعني أن تقف في وجه مجرم يعني أن يعود الحق لصاحبه، يعني أن تكون انساناً أولا وأخيراً.


وهنا يجب الحديث عن ردة فعل الشارع العربي ابتداء من النكبة إلى 2020 مروراً بمواجهات حزيران 1967و 1973 و1982 وعناقيد الغضب 1996 ودخول شارون الأقصى 2000 وحرب تموز 2006 والعدوان على غزة 2008 وبالتالي البرود الخفيف الناتج عن قرارات التطبيع لا يعني القبول به بل يعني أن الحالة التي يعيشها المواطن العربي في أسوأ درجاتها على صعيد الخدمات والحقوق، ويعني أنً سبب الهزيمة ليس التأخر العسكري أو العلمي أو التكنولوجي بل هذه نتائج عقود الاستبداد العسكري التابع الذي أودى بالمواطنين إلى حافة الجوع مع غياب كامل للحريات والمؤسسات.


مقاومة العدو أو الامبريالية و"المؤامرة" لا يمكن في ظل حكم أنظمة مستبدة ولا يقوى عليها شعب يبحث عن رغيف خبز وجدار يستند عليه.


الحرية هي الطريق الوحيد لخلق أنظمة تحترم شعبها وتمثل إرادته وتكتسب شرعيتها منه.


الطغاة لم يتعلموا شيئاً من الطغاة السابقين وهنا أيضاً يعاد التاريخ كمهزلة.


الهزيمة والمشاريع التي تهدد المنطقة والتقسيمات الحالية القائمة على خرائط آبار النفط والغاز والثروات لا يمكن مواجهتها بالخطب والشعر والفساد وبإعلام يجيد التهريج والتصفيق واستقبال المنجمين.


مصطفى سعد

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!