الوضع المظلم
السبت ١٨ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
الاجتياح التركي الصامت
عبير نصر

من يتابع التدخلات العسكرية والاقتصادية التركية في المنطقة العربية، سيكتشف تمدداً تركياً واضحاً مستنداً إلى مشروعٍ إمبراطوري متخيل، خيّم على المنطقة وشعوبها، طيلة أربعمائة سنة، كان السبب في تخلفها، ومنع كلّ سبل التطور والحضارة عنها، بعدما حاول العثمانيون باسم الدين والعقيدة تتريكها وطمس لغاتها وثقافاتها.

واليوم تحاول الدولة التركية إرجاع عجلة التاريخ للوراء، عبر التدخل العسكري في الدول المؤثرة، ودعم المليشيات الخارجة عن الشرعية والقانون، بغية زعزعة الاستقرار فيها، بتبنّي سياسة التخريب عبر الوكلاء، لإيجاد قدمٍ ثابت لها، وتحقيق الحلم العثماني على حساب سيادة هذه الدول وحياة مواطنيها. ولعل أدلّ مثال على ذلك سعي السلطات التركية لتتريك المناطق السورية التي احتلها الجيش التركي بعد عام 2011. حيث تُستخدم اللغة التركية في المدارس، وتُربط المدن والبلدات بالولايات الحدودية التركية إدارياً، وترفع العلم التركي، وتبث في وسائل إعلامها تاريخاً مزوراً لهذه المناطق السورية، بوصفها من "تركة" السلطنة العثمانية. هذا بالتزامن مع نشر "ميتين غلونك"، وهو عضو في البرلمان عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، تغريدات تدعو إلى تركيا الكبرى، التي تضم مساحات واسعة من شمال اليونان وجزر بحر إيجه الشرقية، ونصف بلغاريا وقبرص وأرمينيا في مجملها، ومناطق واسعة من جورجيا والعراق وسوريا. بطبيعة الحال، في الذهنية التركية القديمة، تُعتبر كلّ المناطق الحدودية هي مناطق نفوذ تركي تاريخية، وبالتالي لا بدّ من إخضاعها. وعليه، ومنذ اندلاع الحرب السورية، بدأت تركيا بوضع خطط التوسع في الشمال السوري، لتشنّ، بدايةً، عملية عُرفت بـ"درع الفرات" ضد تنظيم داعش، بموجبها سيطرت على مساحة واسعة تقدر بـ(3900) كم2. ولم يتوقف الأمر هنا، إذ استمرت عملية التمدّد لتصل إدلب، خصوصاً بعد تسليم مدينة حلب نهاية العام 2016 إلى روسيا والمليشيات الإيرانية، مقابل التوسع في بناء التحصينات في ريفي إدلب وحماة، والتي ما زالت تحت السيطرة التركية.

وفي الواقع قيام القوات التركية بعملياتٍ عسكرية واسعة في الشمال السوري مرتبطة بأطماعها التاريخية، تعكسها السياسات التركية من خلال دعم التنظيمات الراديكالية. يعزز هذه الحقيقة، إدراج خريطة قديمة في المناهج الدراسية للتلاميذ الأتراك، تضم شمال سوريا من الساحل مروراً بشمال حمص وإلى شمال العراق، بالإضافة إلى جزيرة قبرص، على أنها أراضٍ تركية، وهو ما تحدث عنه رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داوود أوغلو، والذي شغل قبل ذلك وزارة الخارجية، في كتابه (العمق الاستراتيجي)، حيث يعتبر أنّ البنية الدفاعية التركية تُلزمها بتطوير استراتيجيةٍ دفاعية، تذهب إلى أبعد من مجرّد الحدود الدولية الموجودة على الواقع، وداخل حدودها القانونية فحسب، بل يفرض عليها التدخل في أيّ وقت في قضايا متعددة خارج حدودها. لنكن أكثر مباشرة: تبرز خشيةٌ تركية من أنّ المكاسب التي حققها الأكراد السوريون ستشجعهم على إنشاء ولاية محصنة، تابعة لحزب العمال الكردستاني على حدودها، وتعطي نقاط القوة العسكرية والسياسية والإقليمية التي يتمتعون بها، أوراق مساومة قوية في أي حلّ سياسي بسوريا، يطالبون من خلاله بالاعتراف بحقوق الأكراد وإلغاء مركزية السلطة، وهو ما تسعى تركيا لمنعه.

ولذا ليس من الغريب أن تتصدر العمليةُ العسكرية التي هدّد بشنّها الرئيس التركي مؤخراً في شمالي سوريا، حديث الساسة والمعلّقين في العالم. وفي وقتٍ لم يتضح المشهد فيه أكثر، من زاوية "توقيت إطلاقها" أو إن كانت ستبدأ بالفعل أم لا، سادت سلسلة من المواقف العالمية "اللافتة"، كنوعٍ من رد الفعل. إذ لاقى تهديد أردوغان، الذي أكد أن "تركيا ستميز مجدداً في هذه المرحلة، بين من يحترمون حساسياتها الأمنية والذين لا يكترثون سوى لمصالحهم، وأنها ستصوغ سياساتها مستقبلاً على هذا الأساس"، لاقى معارضة من جانب أميركا التي اعتبرت على لسان وزير خارجيتها العمليةَ العسكرية بأنها "ستهدد الاستقرار الإقليمي". أما روسيا وعلى الرغم من المعارضة الضمنية التي أبدتها، إلا أنها تركت الباب مفتوحاً، أمام سيناريوهات عدّة. إذ من المقرر أن يزور وفدٌ روسي (سياسي– عسكري) العاصمة التركية خلال الشهر الجاري. وبحسب تصريحات لنائب وزير الخارجية الروسي، فإن "اللقاء سيناقش مواضيع عسكرية". مضيفاً: "ستكون هناك اتصالات مع الزملاء الأتراك. لذلك، يجب أن ننتظر. هناك الكثير من التكهنات الآن، لكنني أعتقد أنه لا جدوى من التكهن". ما يثير القلق أنه وبينما كان لكلّ عملية عسكرية تركية في السابق ظرفها الخاص، يأتي التلويح بالخامسة في ظلّ مستجدات إقليمية ودولية. إذ جاءت تهديدات أردوغان بالتزامن مع قضية الطلب الذي قدمته فنلندا والسويد من أجل الانضمام لحلف (الناتو). وهو الأمر الذي تصر أنقرة على رفضه، وتشترط "ضمانات" تتعلق بالمنظمات التي تعتبرها إرهابية على طول حدودها. كما تأتي التهديدات في وقت تتحول فيه أنظار العالم إلى الحرب الروسية-الأوكرانية. في المقابل اعتبر مراقبون أنّ الحديث المتعلق بــ"توسيع المنطقة الآمنة" يرتبط بعوامل داخلية، تتعلق بشكل أساسي بالانتخابات الرئاسية المقبلة، وما يرافق ذلك من ضغوطات تمارسها أحزاب المعارضة التركية، بشأن ملف اللاجئين السوريين، وضرورة إعادتهم إلى بلادهم. وعليه نستطيع الجزم أنه عندما أطلقت أنقرة عملية "نبع السلام" عام 2019، لم تستطع توسيع حدود هذه المنطقة أكثر من المساحة بين مدينتي رأس العين وتل أبيض، بسبب الضغوط الأميركية والغربية والروسية التي مورست عليها في تلك الفترة، أما اليوم فيبدو الوضع مختلفاً، وعلى أكثر من صعيد.

في الحقيقة، غالباً ما يسود التهديد لغة خطاب الرئيس التركي، ولم يتوانَ أبداً عن تهدد أوروبا بإطلاق سيول اللاجئين لإغراقها، بعدما وافق البرلمان الأوروبي على تجميد مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. وثمة من يؤكد أن تركيا "تبتز" أوروبا وتهدف من خلال فتح الحدود إلى "جرها" إلى مستنقع الحرب السورية. فهي تريد من جهة أن تحصل على تأييد أوروبي لعملياتها العسكرية في شمال سوريا، خصوصاً في إدلب، كما أنها تريد، من جهة أخرى، الحصول على مزيد من الأموال من أوروبا. ما استجدّ اليوم أنه وبعد التلاعب المستمر بورقة اللاجئين السوريين، اتخذ أردوغان قراراً مغايراً لنهجه المعتمد بحقهم، وأعلن عن رغبته بإعادة مليون ونصف مليون لاجئ سوري الى الشريط الحدودي الذي تحتله تركيا "طواعية"، حسب زعمه، وذلك بعد إطلاقه مشروع مدن الطوب، لإسكان اللاجئين في ثلاث عشرة بلدة ومدينة سكنية، تمتد من جرابلس غرباً وحتى رأس العين شرقاً، وبذلك يكون أردوغان قد ختم تاريخاً طويلاً يمتد لعمر الأزمة السورية من العزف على معاناة اللاجئين السوريين والمتاجرة بآلامهم، خاصة في ظل تصاعد مشاعر الكراهية ضد السوريين، ولن تكون آخر تلك المظاهر، بالطبع، ركل وجه امرأة سورية مسنّة من قبل رجل تركي متطرف بحجة أنها تخطف أطفالاً.. ثمة فيلم تركي صامت لا تزيد مدته عن ثماني دقائق، لقي اهتماماً كبيراً عبر وسائط التواصل الاجتماعي. الفيلم يتحدث عن ملف اللاجئين في تركيا، راسماً صورة افتراضية قاتمة لمستقبل البلاد التي تستضيف نحو أربعة ملايين لاجئ، حيث يُظهر الفيلم صورة مدينة إسطنبول في عام 2034، وقد تحولت إلى مدينة مدمرة، يُلاحَق فيها الأتراك من قبل السوريين في الشوارع.

 ليفانت - عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!