الوضع المظلم
الأحد ٢٨ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
الإخوان المسلمون وأسلمة الثورة
عبد الناصر الحسين

عبد الناصر حسين - كاتب سوري


إن ظاهرة «أسلمة الثورة السورية» هي أهم سبب في تعقيد المشهد السوري وتأخر الحسم وارتفاع كلفة الحرية، وذلك لأن «أسلمة الثورة» أنتجت عوامل هدم أخرى أنهكت الحراك الثوري وألحقت به ضرراً كبيراً.


إن أسلمة الثورة هي طبع الثورة بطابع «الإسلام السياسي». وبهذا المعنى هي تخطيط للفشل والانغلاق والانسداد، ومشروع خاسر ومخسّر يخسّر الثورة داخلياً وخارجياً.

فمن حيث المنطلق: يعلم الجميع أن الثورة السورية انطلقت لأسباب إنسانية عامة، مرتبطة بقيم الحرية والكرامة، ضد نظام مستبد لا يمت إلى مصلحة الوطن بصلة، ولا يقيم لآدمية الإنسان أدنى اعتبار، اندلعت «ضد الظلم لا ضد الكفر». وبهذا الفهم نكون قد فتحنا باب الثورة لكل السوريين، لا لفئة محددة أو طائفة بعينها لأن معظم السوريين نالهم من ظلم النظام الشيء الكثير.


والحديث عن ثورة ضد «الكفر» لا معنى له مطلقاً لأن «الكفر» أصلاً مسألة فكرية تعالج بالبرامج الدعوية لا بالثورات الجماهيرية. والنظام حتماً سيرحب بفكرة «أن تعارضه كافراً» ويغتاظ من فكرة مقاتلته ظالماً.. فالحالة الأولى تخدمه كثيراً لجهتين:

لجهة أن الثورة ضد الكفر ستتورط بمحاربة «المخالف في الرأي» وهذا «إرهاب» من شأنه تعزيز موقف النظام الذي مفاده: أن في سورية نظاماً تقدمياً يحارب جماعاتٍ إرهابية وهذه الحالة لا تشبه «ثورة الشعب السوري» لا من قريب ولا من بعيد.


والجهة الثانية أن النظام «الكافر» سيجد نفسه جزءاً من أغلبية «القوم الكافرين» من «النصارى واليهود والبوذيين والشيوعيين..»- وكل ذلك وفقاً لتعابيرهم- وبالتالي فهو مستأنس بالتشارك مع الأغلبية العالمية وليس منزعجاً من تهمة «الكفر». وعندئذ يصبح الشعب السوري الثائر هو المعزول عالمياً.

لكن الحالة الثانية وهي «الثورة ضد ظلم النظام واستبداده» هي التي تمنح الثورة شرعية إطلاقها ولا أحد في العالم يرفض فكرة محاربة الظلم والعدوان، وسيكون النظام عندها معزولاً ومداناً، وستجد الثورة لها الكثير من المؤيدين، لأن الظلم مدان عالمياً ولا أحد يفتخر به.

وبناء عليه فإن النظام يقبل بأن يكون كافراً بل ويفتخر بذلك ولا يرضى أن يكون ظالماً لأنه يعلم أنه لا توجد محاكم تحاكم الكفار بينما هناك محاكم تحاسب الظالمين!. فالكفر «وجهة نظر» لكن الظلم «جريمة».


ومن حيث المسار: فقد أخذت الثورة السورية مساراً وطنياً جامعاً حيث شارك في مظاهراتها السلمية كل أطياف الشعب السوري، وقد خرجت المظاهرات السلمية من كل مكان يتيح للناس التجمع والتجمهر، كالمساجد والمدارس والمعاهد والجامعات، وبرزت النشاطات الثورية الجامعة في الداخل والخارج لا تفرق بين طيف معارض وآخر، وحدث ذلك الانقسام العفوي المشرّف في صفوف الشعب السوري والنخب، ما بين «مؤيد للنظام ومعارض له». أما المؤيدون فقد انحازوا إلى خيار الجريمة، وأما المعارضون فقد انحازوا إلى خيار الحرية والكرامة وأنسنة الإنسان، لكن الأيدي الآثمة عملت على تقسيم السوريين ما بين «مسلم وكافر»، أو ما بين «إسلامي وعلماني» لتزيد من حالة الانقسام غير المبرر ولا المفيد.


ومن حيث الأهداف: فقد تحددت ملامح أهداف الثورة من بواكير انبعاثها، متمثلة بإسقاط النظام القاتل وإقامة الدولة المدنية التعددية، دولة العدل والمواطنة والقانون، وبناء حياة كريمة. لكن الذي حصل بالضبط هو أنه بينما كان النظام القاتل يقمع الثورة السورية ظاهراً فوق الأرض كان هناك من يعمل على اقتلاع جذور الثورة من تحت الأرض، مستفيداً من انشغال الناس بروعة اللحظة التاريخية وتذوّق طعم الحرية.


وحتى لا يكون الكلام منفتحا على العموم ولكي لا يترك المجال للتخمين، لا بد من تثبيت حقيقة أن تيار «الإسلام السياسي» متمثلاً بالإخوان المسلمين الحالمين بالسلطة والمتلهفين للمناصب هو من يتحمل مسؤولية أسلمة الثورة، مع ارتياح تام ودعم من النظام الذي استثمر في هذا الطيش كثيراً.

منطلقين من مبدأ أن لهم أفضلية السبق في مقارعة النظام في ثمانينات القرن الماضي، وكأن لهم ديْناً على الشعب السوري وقد آن الأوان لاستيفائه بالوصول إلى السلطة، مشحونين بشعور استعلائي خادع بأنهم هم الأمناء الحقيقيون على الأمة بتفويض علوي مقدس.


فعملوا على طبع الثورة بالطابع الإسلامي في المظهر والمضمون، وكانوا حريصين على اقتصار خروج المظاهرات من المساجد مطلقين شعار «لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس»، ليردده الناس دون أن يعلموا أن من وراء تلك الشعارات أهدافاً مشبوهة ترمي إلى صبغ الثورة بطابع إسلاموي. فمن المدارس والجامعات يمكن أن يخرج المسلم والمسيحي والدرزي والعلوي، أما المساجد فلا يخرج منها إلا المسلمون. ليحرم الآخرون من شرف الانحياز إلى الضفة الصحيحة من التاريخ.


والأمر الآخر الذي ظهر في تحكم «دعاة الأسلمة» في مسار الثورة هو ذلك التفنن في إطلاق أسماء أيام الجمع وكتابة اللافتات، فبدلاً من تحميلها رسائل إيجابية راحوا يطلقون الأسماء الإسلامية مستغلين عواطف العامة، حيث لا يستطيع أحد أن يرفض المقدّس الديني خشية الوقوع في «إثم عظيم» يستدعي «غضب الله».

وفي الجهة المقابلة فقد استغل القوم تجمّع المال السياسي لديهم من بعض الدول المفتونة بتيارهم، لينفقوا هذا المال على من تجري في عروقهم دماء خاصّة، أو من يمكن تأليف قلبه على هذا الحزب، مقابل منح الولاء، ثم يقبلون منه أن يجلس في بيته ساكناً صامتاً لا يكلف خاطره حتى عبء متابعة الأخبار.

وبعدها دخلت الثورة في مربع التسليح فشكل الإخوان الكتائب والفصائل المطلوب منها تجميد الصراع وتخزين السلاح إلى حضور اللحظة الحاسمة، ليعملوا على الإمساك بمفاصل الحياة والسلطة.


هنا توجه الإخوان إلى دعم التيارات السلفية التي تدور في فلك القاعدة وأخواتها ليتولى هؤلاء قيادة مسرح القتال وليحظى الإخوان بقطف الثمار، فانفتح المشهد السوري على بوابات الجحيم، حيث اشتعلت الحرائق في أرض الوطن البريء، حتى أمكن القول: إن النظام هو المسؤول الأول عن إشعال الطائفية ويساعده الإخوان في ذلك، وإن الإخوان هم المسؤولون عن إشعال نار التطرف ويساعدهم النظام في تلك المهمة.

ظهر التقارب السحري بين الإخوان المسلمين والتيارات السلفية الجهادية، التقارب الذي أفضى إلى دعم الإخوان للسلفيين بمن فيهم تنظيم «داعش» الهمجي، ومارس الإخوان دورا معقدا في هذا الصدد، فقد جمعوا المال من هنا وهناك باسم الجيش الحر أحياناً لكنه ذهب إلى الإسلاميين ليتحول جزء كبير منه لاستهداف الأحرار الذين جاء المال باسمهم.


بعدها انقسم المشهد إلى قسمين: فصائل إسلامية تتمثل بالقاعدة وأخواتها، يتولون إسقاط النظام عسكرياً، وفصائل إسلامية معتدلة إخوانية تتولى الانقضاض على السلطة بعد سقوط النظام، في صفقة غير معلنة، بحيث يكون لقوم نصيب «الشوكة» ويكون لآخرين نصيب «الوردة».

كيف حسبها الإخوان المسلمون؟. لقد قدر الإخوان المسلمون أن الناس سيذهبون إلى صناديق الاقتراع، وسيكون الإخوان أوفر حظا من غيرهم لأنهم الحزب الإسلامي الوحيد المنظم ولأنهم وضعوا أيديهم على قطاعات ثورية مهمة كالمجالس المحلية والحكومة المؤقتة علاوة على تصدرهم للمعارضة السياسية، كما أنهم ممسكون بحيز واسع من الإعلام الثوري الذي يمكن أن يتحول إلى مراكز للدعاية الانتخابية لهم، إضافة إلى وضع أيديهم على أموال الإغاثة التي يمكن أن تتحول إلى أموال انتخابية لشراء الذمم المحتاجة إلى المال أصلاً، ومما يزيد من فرص الإخوان بتصدر العملية «الشيطاقراطية» تلك النفوس المشحونة إسلاميا فلن تنتخب حزباً علمانياً ولا ديمقراطياً ولا وطنياً، وكيف يفعلون ذلك وقد عمل الإخوان على شيطنة هذه المسميات وتصنيفها على أنها من المكفرات المخرجات من الملّة ومن موجبات غضب الله؟!.


لكن الإخوان المسلمين الذين وضبوا أوضاعهم داخليا بهذه الطريقة لم ينسوا أن يرتبوا أمورهم مع الإيرانيين عبر صفقة مشبوهة تتيح لهم المشاركة مع النظام بحكومة مؤقتة، ثم تؤول الأمور لهم بعد انتهاء صلاحية الأسد، وذلك مقابل تجميد كوادرهم لأي حراك ثوري في هذه المرحلة والاقتصار على ممارسة الأعمال الإغاثية فقط وضمان انخراطهم في دجل محور «المقاومة والممانعة».


لقد قدروا فأساءوا التقدير، وحسبوها فأخطأوا الحساب، حين ظنوا أن الأسلمة ستفضي إلى الأخونة، وأنهم سيكونون الأوفر حظا بالسلطة، فالواضح اليوم أن سورية استدارت وتحولت كثيرا، فالتطرف الذي بذر الإخوان بذرته لا يعِد الإخوان بخير، بل على العكس فرأس الإخوان موضوع تحت سكين التطرف الذي يشبه النار في الهشيم، ولم يعد المتطرفون يقبلون بأقل من الخلافة هدفا لهم.

والحقيقة أن الإخوان المسلمين حاولوا الظهور بالمظهر اللائق أمام المجتمع الدولي بطرح صيغة «الدولة المدنية» والحديث عن الدولة الديمقراطية، لكنهم وقعوا بين نارين حيث صار «الداخل المؤسلم» ينظر إليهم على أنهم علمانيون، وينظر إليهم «الخارج المعلمن» على أنهم متشددون فخسروا الداخل ولم يحظوا بثقة الخارج.


لقد وضع الإخوان المسلمون الثورة السورية في دائرة الحرج الشديد، لأنهم هم الذين صاغوا المشهد الثوري وفقا لأهوائهم بحيث ظهرت الثورة على صورة طائر بجناحين جناح سياسي يتصدره الإخوان بنسبة مرتفعة، وجناح عسكري يتصدره تنظيم القاعدة وأخواتها، لكن الإخوان مغضوب عليهم عربياً، والقاعدة مغضوب عليها عالمياً، فكيف ستكون حال الثورة التي يحيط بها الغضب من كل جانب؟ وما السبيل للخلاص من هذا الحرج؟.

إن أسلمة الثورة أدخلت سورية في نفق مظلم، حيث توشح الوطن بالسواد، وتلطخت أرضه بالحنّاء، فصار لوحة تجريدية مصبوغة بالدماء، يصعب على الرسّام نفسه فك طلاسمها، وإذا أردنا للثورة السورية أن تنجح وتمر عبر الزحام العالمي فيجب أولا تغييب مسمى الإخوان من المشهد السياسي، ويجب ثانيا إلغاء مسمى القاعدة من المشهد المسلح، ثم العودة إلى خيارات الثورة يوم انطلاقتها، بتألقها الذي أذهل العالم، تحت راية وطنية جامعة، فالثورة لن تمر بنسختها المزيفة، والمشروع القابل للمرور والعبور هو مشروع الثورة بنسختها الأصلية قبل تزويرها.

العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!