-
اشتباك المثقف وجبهات الاقتتال القسرية
في اشتغالي على عمل روائي جديد يستند على الأغاني الشعبية، أتواصل مع صديق مغنٍّ، يزودني بمعلومات ومراجع أعتمد عليها في كتابتي، وتجري بين الوقت والآخر حوارات بيننا عن الأدب والموسيقا ومكانة المثقف ودوره الاجتماعي.
يبدو صديقي الموسيقي طفلاً منبهراً بعالم الكتابة الذي يجهله، وهو يعمل، إلى جانب نشاطه الموسيقى الذي لا يعيش منه، في مجال آخر، بعيداً عن الفن والأدب، بحيث لا يقرأ إلا ما يتعلق باهتمامه في الموسيقا، وما يخصّ مهنته، ويبدو بعيداً عن عالم الرواية الذي أنتمي إليه، وعن الأجواء الثقافية الساخنة في المنطقة.
لطالما سألني بتلك الصيغة التي يطرحها السياح عن البلاد أو الشعوب، تلك الأسئلة العامة الواسعة: أنتم الكتّاب، حدثيني عن عوالمكم؟ ولطالما كنت أشرح له أننا لسنا كتلة واحدة.
صديقي الموسيقي يعمل مع فريق صغير من شبان وبنات، يجمعهم شغف الموسيقا، ويبدون دائماً في حالة توافق وانسجام.
أتذكر حكاية سمعتها عن الممثلة إغراء التي قالت للكاتب سعد الله ونوس، وهي تدخل معه أجواء الثقافة، فتجد أن مشاكل المثقفين هي أسوأ وأعقد من المشاكل بين الفنانين. وأشعر بالخجل أمام براءة صديقي، وكأنني مسؤولة عن تعقيدات المجتمع الثقافي، إذ يمزح صديقي الموسيقي معي أحياناً وهو يرى غضبي واشتباكي في كتاباتي وحواراتي، ويتهمني بالمشكلجية.
من هنا، أشعر أنه من الصعب جداً فهم عالم الكاتب في العالم العربي، حيث يجد أحدنا نفسه وحيداً مقابل عشرات الجبهات التي تحارب ضده، وحيث ينتظر منه القارئ البريء، كصديقي الموسيقي، أن يكون كاتباً خالصاً يقدم الفكر والفن والجمال، كما يقدم كتّاب العالم هذا، جالسين على أرائك مطرزة بالراحة والاستقرار.
لأكون أكثر تحديداً، سأحاول تعداد بعض الجبهات التي يجد أحدنا منخرطاً فيها، مهما حاول أن يكون مخلصاً للكتابة فقط:
ـ أن يكون أحدنا كاتباً
الكاتب في الأصل، شخص قلق، يأتي إلى الكتابة مدفوعاً بقلقه الوجودي المتمحور حول أسئلة كثيرة واشتغالات على المجتمع والشعوب وتناقضات القيم الكبرى مع الواقع ويشعر بحالة غير منطقية وغير مبررة من المسؤولية عن العالم ومحاولة تفكيك المشهد وإيجاد الحلول.. لهذا، وبعيداً عن خلق وصفة لانهمام الكاتب بما حوله، فهو دائماً في حالة البحث وطرح الأسئلة، وعدم الراحة.
ـ أن يكون أحدنا كاتباً في الشرق الأوسط، في زمن الخراب والحروب
كل الصفات الواردة في الحالة السابقة، تتحول إلى تركيز شديد في حالة الكاتب في الشرق الأوسط، حيث لا يملك الكثير من رفاهية الاعتناء بحياته الشخصية، ويزداد كم الهم لديه وشعوره بالمسؤولية، وممارسة دوره الأخلاقي أمام حالة الاضطراب الكبرى التي تعيشها بلاده وشعوبه.
ـ أن يكون أحدنا كاتباً في الشرق الأوسط، في زمن الخراب والحروب، وكردياً
في هذه الجبهة، يتحول الكاتب إلى شبه مقاتل، مدفوعاً من قبل تيار عنيف ليجد نفسه داخل معارك لم يُخلق لها، فتتكثّف أيضاً حساسيته صوب الآخر، ويحمل مسؤولية مزودجة، صوب أطراف النزاع الهوياتي، ويجد نفسه متلقّياً لتهم جديدة، مختلفة عن حالة الكاتب المنتمي "بيولوجياً على الأقل" للأغلبية الشعبية.
ـ أن يكون هذا الكاتب امرأة
أي أن يكون أحدنا كاتباً، في الشرق الأوسط، في زمن الخراب والحروب، وهو كردي، وفوقها امرأة، هذا يعني أنها مشتبكة رغماً عنها، متواجدة على عدة جهات: القلق الوجودي ومسؤولية الكاتب عن العالم ـ قلق الكاتب ومسؤوليته المضعفة في زمن الحرب ـ قلق الكاتب الكردي وخصوصية النزاع الهوياتي والأيديولوجيات العامة التي تزيد من حدة الانهمام بالعمل والصدام بالآخر الرافض لأية فكرة جديدة، مهما كانت صغيرة، في مجتمعات بطريركية، تمنع الاختلاف والآراء الجديدة وتشدد على رصف البشر في مجموعات ذهنية ثابتة، إضافة عن انهمام الكاتبة المرأة في قضايا النساء، وشعورها بالمسؤولية صوب الانتهاكات الموجهة ضدهن، دون الحاجة لوصف شروط العيش المجحفة التي تحياها النساء في المنطقة، خاصة في زمن الحرب، وهن يتحولن إلى أدوات انتقام من الخصم، مع احتمال كبير لتحول الكاتبة ذاتها، من طرف المدافع عن الآخر، إلى وجهة الدفاع عن نفسها، بسبب التركيب الذكوري السائد للمجتمع، وتجريمه لانشغال المرأة بالشأن العام، وجرأتها على المسّ بالمفاهيم الذكورية الآمنة للرجال. حتى في عالم النخب، إن وُجد، فإنه غالباً هو مكوِّن ذكوري، تتفوق فيه الذهنية التاريخية لحكم الرجال.
بعد هذه النظرة السريعة على جبهات الاشتباك الفكري، يمكن أن يتساءل أحدنا، عن حقوق الكتّاب والكاتبات في الشرق الأوسط، وعن نسبة الطمأنينة أو الاسترخاء النفسي التي يمكن لأحدهم، أو إحداهن، التمتع بها. في الوقت الذي يظن الكثيرون، أنّ الكتابة هي حالة ترف وكلمات إنشائية وشهرة وصور في الإنترنت، إلا أنها في العمق، حالة عذاب مُختارة، لا مفر منها، ممن يجدون في أنفسهم بذور العناية بالعالم، والرغبة في إزالة الظلم منه، ومحاولة تحقيق بعض العدالة، ولو على الورق، وإعادة الاعتبار لضحايا الأفكار الجمعية والحروب والكراهية.. وفوق هذا، فإنّه رغماً عنه، مضطراً للاشتباك مع جميع الظروف السيئة، التي تضعه، دون إرادة منه، في خنادق الاشتباك الفكري، مع جبهات اقتتال قسرية متعددة، كأنها تتفق جميعاً على ضرورة الإبقاء على الصورة التاريخية، وعدم السماح بتغيير المشهد.
ليفانت - مها حسن
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!