الوضع المظلم
السبت ٠٩ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
احتكار وطن
ثائر الزعزوع جديد

ثائر الزعزوع


يستطيع أي معتقل كتب له النجاة، أن يتحدث باسترسال عن فترة اعتقاله، سواء أكانت عاماً أم عامين، أم حتى شهرين، سيبرز القمع والشتائم، والإهانات المتكررة كأشياء جامعة بين جميع المعتقلين، وقد دون الروائيون مرويات مؤلمة عن المعتقلات، لا في سوريا وحدها، ولكن في العديد من أقطار الشرق. هناك رابط آخر نستطيع العثور عليه في تلك السرديات، وهو إصرار السجانين والمحققين على أنهم أكثر وطنية من الآخرين، وأنهم باعتقالهم أصحاب الرأي المختلف إنما يحافظون على الوطن من الضياع، وهم لا يترددون أبداً عن توجيه تهمة الخيانة لأي صاحب رأي سياسي يعارض النظام الحاكم، شخصياً، وجهت لي العديد من التهم خلال فترة اعتقالي، إحداها على سبيل المثال، التآمر مع العدو الصهيوني لتدمير الوطن، وهي تهم، كما يعلم الجميع، ترمى جزافاً وليست حقيقية على الإطلاق، لأن عملاء إسرائيل الحقيقيين قد يكونون موجودين في مناصب عليا في الدولة، لكن احتكار الوطن بيد فئة حريصة عليه في مواجهة فئة تريد تدميره، هي لازمة يستطيع المرء العثور عليها في الخطاب السياسي الممتد على مدى عقود في سوريا، و تكون أكثر وطنية بمقدار اقترابك أو التصاقك بالنظام، وخدمته، فيما سوف تفقد وطنيتك فوراً، حال إبدائك رأياً مختلفاً مخالفاً، أو، وكما حدث مع كثيرين من الذين أعلنوا تأييدهم للثورة السورية، ممن كانوا، قبلها، جزءاً لا يتجزأ من ذلك النظام، وكانوا يعتبرون وطنيين، ثم نزعت عنهم صفة الوطنية، وصاروا خونة.


هذا الاحتكار يمكن تفسيره بسهولة شديدة، كون فكرة الوطن أصلاً مرتبطة كلياً بالنظام، فلا يمكن الفصل بين الوطن وبين النظام، و تحديداً في سوريا التي تطورت تدريجياً لتكون دولة عائلية بامتياز. ولن يقتصر احتكار عائلة الأسد على الوطن، لكنهم سوف يحتكرون أشياء كثيرة، مثلاً كان بعض أبنائهم يسيطرون على التهريب، ولديهم موانئ خاصة، و تحولت القرداحة، معقل العائلة، إلى بؤرة تهريب كبيرة، لا ندري على وجه التحديد، مدى قوتها وانتشارها عالمياً، لكننا متأكدون من قوتها محلياً، ولبنانياً طبعاً، لأن لبنان شكّل، طيلة سنوات احتلاله من قبل القوات السورية، حديقة خلفية للأعمال القذرة، ولن تقتصر أعمال التهريب على البضائع العادية مثل الدخان والمواد الغذائية، كما كان يحدث حتى مطلع الثمانينات، لكنها سوف تتوسع لتشمل المخدرات، مع بروز حزب الله كقوة فاعلة على الساحة اللبنانية، فالحزب، وكما أثبتت تحقيقات دولية، يعد شريكاً أساسياً في تجارة المخدرات العالمية، ويمكن أي زائر لمناطق نفوذ الحزب أن يشاهد بأم عينه حقول الخشخاش المنتشرة في البقاع، و بعض قرى الجنوب اللبناني، كل هذا لخدمة مشروع المقاومة والممانعة، إذ لا يجرؤ لبناني واحد على انتقاد سياسة الحزب، لأنه بذلك يسيء إلى رموز المقاومة، ويوهن عزيمة المعسكر الممانع، ولهذا فهو يوضع على الفور في فئة الخونة.


حين انطلقت الثورة السورية، حلم السوريون بوطن حرّ، تكون العدالة أساسه، فلم يتردد النظام عن إطلاق صفة التآمر على مئات الآلاف الذي شاركوا في المظاهرات، واعتبرهم مأجورين يتلقون رواتب من دول مختلفة، مرة قطر و مرة السعودية، ومرات إسرائيل، و اجتهدت وسائل إعلامه في فضح تلك المؤامرة التي تستهدف تدمير سوريا، وتمزيقها. وسيظل مرتبطاً بالذاكرة ذلك اللقاء الذي أجراه التلفزيون السوري مع أحد “الإرهابيين”، وهو عامل بسيط من مدينة اللاذقية يدعى “أبو نضير” أُجبر، كما كان واضحاً، على ربط أحداث لا يمكن ربطها، كي يخرج ذلك الإعلام بقصة مثيرة للضحك، والوجع في الوقت نفسه، الضحك لأنك كنت تستمع إلى لقاء كان واضحاً أنه مفبرك، وليس حقيقياً، ويستطيع طفل في السابعة من عمره أن يكتشف حجم الكذب الذي فيه. والوجع لأن ذلك الشاب تحوّل بين ليلة وضحاها إلى إرهابي ومخرّب، وصار جزءاً من المؤامرة الكونية التي تستهدف الوطن.


طبعاً لا يقتصر الاحتكار على الوطن كمعنى فقط، بل على كل ما يحويه ذلك الوطن من خيرات، فليس خفياً أن رفعت الأسد عم رأس النظام الحالي كان يعتبر الآثار السورية ملكاً له، و كان له الحق في بيعها والاتجار بها. و يتناقل السوريون ومنذ سنوات حكاية النفط السوري، الذي كان يباع لصالح العائلة الحاكمة، وتلك الحكاية تستند إلى أرقام ووثائق، وليست مجرد اتهامات زائفة كتلك التي يُتهم بها السوريون الثائرون، أو المعارضون. كما سوف تكون العائلة الحاكمة شريكة لجميع المشاريع السورية صغيرة كانت أم كبيرة، بدءاً بصناعة الألبان وصولاً إلى شركات الانتاج الفني، والهاتف الخليوي. ولم يكن خفياً على السوريين تلك المشاريع التي كانت تنفذها العائلة الحاكمة، في مختلف المناطق السورية. وسيتحول رامي مخلوف، على سبيل المثال، إلى أحد الأثرياء البارزين لا في سوريا فقط، بل على مستوى عالمي، ولم يكن السوريون في حاجة إلى أوراق بنما ليعرفوا تلك الحقيقة.


احتكار وطن

ولم يقتصر الأمر على ذلك...

في المنطقة الشرقية تنبت الكمأة بشكل طبيعي في المواسم المطيرة، وتشكل الكمأة دخلاً اقتصادياً لا بأس به، بسبب ارتفاع أسعارها، سواء في أسواق المدن السورية الكبرى، أو حتى خارجياً، قبل أن يقرر النظام الحاكم، وعبر أجهزته الأمنية، أنه هو فقط من يحق له الانتفاع بخيرات “الوطن”، فكانت دوريات الأمن العسكري تلاحق الناس وتصادر منهم ما يقومون بحصاده، وتبقي لهم جزءاً يسيراً فقط، أما الكميات الكبيرة، فكانت تتولى بيعها والاتجار بها، لتعود الأرباح إلى رؤساء الأجهزة الأمنية. والأمر نفسه ينطبق على أزهار البابونج التي تنبت بشكل طبيعي في السويداء، مثلاً، إذ كانت الأجهزة الأمنية تصادر ما يحصده المواطنون و تتولى بيعه، وتتقاسم الأرباح فيما بينها.


احتكار وطن

و يستطيع السوريون أن يسهبوا ويستطردوا في سرد حكايات شبيهة بتلك، وجميعها تؤكد أن “الوطن” كان بما فيه حكراً على العائلة الحاكمة، و أن السوريين كانوا موجودين بحكم الضرورة لا أكثر، وحين أتيحت الفرصة للنظام و أجهزته لم يتورع عن تهجيرهم و تدمير بيوتهم... لتظل سوريا كما أرادوها مزرعة لآل الأسد

العلامات

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!