الوضع المظلم
الجمعة ٠٣ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • اتركوا محاكمة رسلان وغريب تسير بمنحاها القانوني السليم

اتركوا محاكمة رسلان وغريب تسير بمنحاها القانوني السليم
رياض علي

كثر الأخذ والردّ حول المحاكمة التي تتم أمام المحكمة الألمانية في كوبلنز بمواجهة كل من أنور رسلان وإياد غريب، المتّهمين بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانيّة عندما كانا يعملان في استخبارات النظام السوري، بين مؤيدٍ لهذه المحاكمة ومعارضٍ لها. 


فالمؤيد يرى بأن مثل هذه المحاكمات تعتبر إنصافاً لكلّ من يدّعي بأنّه كان ضحيّة للتعذيب والحرمان من الحريّة بدون وجه حق والانتهاكات الجنسيّة وغيرها من الانتهاكات لحقوق الإنسان المدّعى بارتكابها من قبل المذكورَين. وإنّ انشقاق المتهَمَين هو موقف إنساني يُحترم لكن هذا لا يعني أن نلزم الضحايا بالتنازل عن حقوقهم التي يدّعون بها ولا سيما أنّ تلك الحقوق تبنى على أساس الانتهاكات المروّعة لحقوق الإنسان والتي يمكن أن تصنّف كجرائم ضدّ الإنسانيّة، والمعارض لمثل هذه المحاكمات يرى بأنّ الوقت لم يحن بعد لمثل هذه المحاكمات، بحجّة أنّها ستعزّز من موقف النظام السوري وسيظهر أمام مؤيديه بأنّه كان على حقّ وبأنّه قادر على حماية من وقفوا معه واستمروا في الانتهاكات بحق الشعب السوري المنكوب الذي “أجرم” حينما طالب بالحرية والكرامة، وبأنّ كل من خرج من حظيرة الطاعة والذلّ سيكون عرضة للملاحقة والتشفّي من قبل إخوتهم “الثوار”.


والحقيقة أنّ لكل طرف حججه ومبرراته، وكل منهم يحاول شدّ اللحاف لطرفه ولو كان ذلك على حساب المنطق السليم، وكان من الممكن تجاوز كل هذا السجال والجدال لو سارت الأمور بمنحاها الطبيعي دون تهويل من هذا الطرف أو ذاك، ونقصد بمنحاها الطبيعي هو أنّه كان من المفترض أن يُنظر للأمر على أنّه عبارة عن محاكمة لأشخاص كانوا بموقع المسؤوليّة في فترة ما من عمر الثورة، ولا يهمّ من الناحية الجزائيّة طول المدة أو قصرها، متّهمين من قبل بعض السوريين بأنّهم قد ارتكبوا الانتهاكات بحقّهم خلال فترة اعتقالهم، وبناء عليه قامت النيابة العامة في المحكمة الألمانيّة بتحريك الدعوى العامة بحقّهم، وعلى طرفي الدعوى، المدّعين والمتهمين، تقديم أدلتهم ودفوعهم، ومن ثم ستنظر فيها المحكمة وتصدر قرارها وفقاً لتلك الأدلّة والدفوع ووفقاً لدرجة اقتناعها بها.


فمن غير المعقول أن نجاري الفريق المعارض لهذه المحاكمة بالقول بأنّ انشقاق المتهَمَين في فترة مبكرة من عمر الثورة يعفيهم من المساءلة القانونيّة، سيما وأنّ الجرائم المسندة إليهما، قد تصنّف في خانة الجرائم ضدّ الإنسانيّة، وهي جرائم تتحدّى الحصانة وفقاً لنظام روما للمحكمة الجنائيّة الدوليّة لعام 1998، بمعنى أنّه لا يمكن لأيّ شخص كان، ومهما كان موقعه الوظيفي أن يتملّص من المحاسبة والعقاب إن توفرت الأدلة الكافية بحقّه أمام المحكمة الناظرة في الدعوى، وبالتالي فإنّ ترك هؤلاء المتهَمَين للنظام السوري وتخليهما عن وظائفهما ومكاسبهما التي كانا يتمتعان بها لا يمكن أن يعفيهما من المسؤوليّة بخصوص الادّعاءات التي وجهت إليهما. في حال صحّة الادّعاء وإثباته.


ثم إنّ المثول أمام المحكمة ليس عاراً أو فضيحة كما يتخيّله البعض، فلكلّ شخص الحق بالادعاء على خصمه أمام المحكمة، ويقع عبء الإثبات على الطرف المدّعي ومن حقّ الطرف المتّهم إنكار تلك الادعاءات ودحضها، وفي حال عدم ثبوت الادعاء ستحكم المحكمة قطعاً ببراءته من الجرم المسند إليه، إذ ليس كل من قُدِّمَ للمحاكمة هو مجرم، وفقاً للقاعدة القانونية المعروفة التي تقول بأنّ كل متهم بريء ما لم تثبت إدانته بحكم بات مكتسب الدرجة القطعية.


كما إنّ القول بأنّ هذه المحاكمة ستعزّز موقف النظام السوري أمام مؤيديه كما ذكرنا سابقاً، فهو برأينا يجانب الصواب، بل على العكس من ذلك تماماً، إذ إنّه إذا ثبت أمام المحكمة بأنّ أعمال التعذيب والقتل والإساءات الجنسيّة قد وقعت في فرع الخطيب وهو أحد أشهر الأفرع الأمنيّة للنظام، ويقع في قلب العاصمة دمشق، وذلك بغضّ النظر إذا كانت قد ارتكبت من قبل المتهمين أنفسهم أو من قبل غيرهم، أي بغض النظر عن الحكم ببراءة المتهمين أو إدانتهم.


إنّ ذلك سيشكل صفعة قويّة في وجه النظام، إذ إنّ الأخير لا يزال يتبجّح كعادته بعدم صحة الإدعاءات بارتكاب مثل هذا النوع من الانتهاكات من قبل أفرعه الأمنية والعسكرية والميليشيات الموالية له، بحجة أنّها عبارة عن تقارير تصدر عن منظمات حقوقية أو جهات إعلاميّة مسيَّسة ومدعومة من الخارج، لكن لو تمّ إثبات ذلك بموجب حكم محكمة محايدة ومستقلّة، كالمحكمة الألمانية فسيصبح موقف النظام أضعف بكثير مما كان عليه سابقاً، مع قناعتنا بأنّه لن يتوقف عن سوق الحجج الواهية والأعذار القبيحة التي لن تقنع أحداً. 


كما أنّ الطرف الآخر (المؤيد للمحاكمة) قد ذهب بعيداً في تهويل الأمر وكأنّ هذه المحاكمة ستأتي بالزير من البير، إذ ليس دقيقاً بأن هذا الإجراء يعتبر جزءاً من مسار العدالة الانتقالية الذي يرغب كل توّاق للعدالة والحرية في سوريا بالوصول إليها في يوم ما، فالعدالة الانتقاليّة وكما هو واضح من التسمية بأنّها مجموعة الإجراءات التي يفترض تطبيقها في المرحلة الانتقالية، أي مرحلة الانتقال أو التحوّل من فترة نزاع مسلح إلى مرحلة السلم والاستقرار أو الانتقال من نظام قمعي استبدادي إلى نظام ديمقراطي تعددي، ونستشهد هنا بتعريف منظّمة الأمم المتّحدة لمفهوم العدالة الانتقالية حيث عرفتها بأنّها “كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة”.


ونحن في سوريا لم نصل بعد إلى تلك المرحلة التي يمكن فيها وصف تلك الانتهاكات بأنّها أصبحت جزءاً من الماضي، حيث لا يزال حمام الدم جارياً في سوريا، وبالتالي لا يمكننا أن نصف أي إجراء يتم في الوقت الحالي بأنّه جزء من العدالة الانتقالية، مع أنّه من الممكن أن يكون عاملاً مساعداً في تطبيق العدالة الانتقالية مستقبلاً، وقد يوفر على القائمين تطبيق هذا البرنامج شيئاً من الجهد والوقت.


ناهيك عن أنّ العدالة الانتقاليّة لا تقتصر فقط على الآليات القضائية، بل تشمل أيضاً عدّة آليات أخرى كما أشار ذلك التعريف المذكور أعلاه، ومنها مثلاً آليات الإصلاح المؤسساتي لبعض المؤسسات التي كانت مسؤولة عن تلك التجاوزات والانتهاكات، وإن كانت درجة المسؤولية تختلف من مؤسسة لأخرى، وذلك لتفادي تكرار حدوث تلك التجاوزات مستقبلاً، كمؤسسات الجيش والأمن والشرطة والقضاء، وآليات جبر الضرر أي التعويض عن الضرر المادي والمعنوي الذي لحق بالضحايا، مما يعني أنّ هذا المسار طويل وشائك ولا يمكن اختزاله بإجراء يتمّ هنا أو هناك، بل قد تستدعي الظروف التي ترافق هذه العملية الاستغناء عن تطبيق بعض الإجراءات أو تأجيلها أحياناً، وتجارب الدول كثيرة في هذا المجال وليست متشابهة بل الظروف المحيطة بكل تجربة هي التي كانت ترسم المسار في أكثر الأحيان.


قصارى القول، لايمكن لأحد أن يصادر حقّ الضحايا في مقاضاة من يعتقدون بأنّ لهم يد في الانتهاكات التي ارتكبت بحقهم، والقول بأنّ انشقاق هؤلاء وتركهم للنظام في فترة مبكرة يمكن أن يكون شفيعاً لهم بعيد عن المنطق، إذا ثبت ارتكابهم لأفعال تنتهك حقوق الإنسان، فمائة ألف بيان انشقاق قد لا تُنسي الضحايا لحظات التعذيب والأسى المكدَّسة في مخيلتهم، وبالمقابل لا يمكن أن نوهم الضحايا بأنّ مسار العدالة الانتقالية قد بدأ في سوريا، كون هذا المسار يتطلّب الكثير من الشروط التي لم تتحقق بعد للأسف.


– رياض علي 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!