-
أوكرانيا.. حرب الطاقة والنفوذ
ما كان ضجيجاً إعلامياً حملَ تهديداً ووعيداً وتلويحاً بعقوبات صارمة إذا ما أقدمت موسكو على غزو أوكرانيا، أصبح واقعاً يراه الجميع، فالحرب التي كانت محتملة أصبحت حقيقةً وعلى العالم أن يتعامل معها ومع كوارثها ونتائجها، والعقوبات المعدومة الوزن على روسيا قد أُقرّت وبات المشهد متاحاً للناظرين.
روسيا التي تدخل هذه الحرب مع حليفتها بلاروسيا والانفصاليين الأوكرانيين تحت عنوان "الضرورة الحتمية" لضمان أمنها الداخلي، ولحماية القومية الروسية من خلال مواطنيها الذين يعيشون في أوكرانيا، ولردع تلك النزعة النازية التي تنتهجها حكومة كييف ضد الروس الأوكرانيين، حيث تمنعهم من ثقافتهم وتمنع عليهم النطق والتعلم بلغتهم الروسية، بحسب خطاب الرئيس الروسي، ولكن لهذه الحرب وجهٌ آخر وملامح تتقاطع فيها مصالح النفوذ والهيمنة وإمدادات الطاقة ولعب الأدوار الوظيفية.
أوكرانيا شرارة حرب الطاقة والنفوذ
قد يدور في خلد الكثير بأنَّ أطماع بوتين في النفوذ تدفعه لاستعادة أمجاد القيصرية الروسية البائدة، وهذه الأحلام هي التي حثّته لتوسيع رقعته الجغرافية، فهو الذي اجتاح القرم وضمها إلى دولته باستفتاء شعبي هزلي في العام 2014، وهو الذي دعم الانفصاليين في الولايات الشرقية الأوكرانية بغية الانفصال عن أوكرانيا، وقد توّج بوتين دعمه للانفصاليين بالاعتراف رسمياً بدونيتسك ولوغانسك كدولتين مستقلتين عن أوكرانيا، وما سبقه في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا، ولكن سبب الأطماع هذا ليس هو السببُ الرئيس لغزو أوكرانيا، فهناك سببٌ آخر يُعدُّ الأهم والأكثر تعقيداً وخطورةً من سببِ التوسّع في النفوذ وهو (الطاقة)، فأوكرانيا ذات الموقع الاستراتيجي الملاصق لأراضي حلف شمال الأطلسي ونقطة العبور الهامة للغاز الروسي إلى أوربا قد وَقَعت في لعنة حرب الطاقة هذه نتيجة موقعها الجغرافي وعليها دفع الثمن الباهظ، كما دفعته سوريا من قبل، للتشابه الجغرافي الكبير بين الدولتين، فكلاهما معبران بريان هامان لخطوط (الغاز) الذي يعتبر الطاقة النظيفة والمنخفضة التكاليف وسلاح المستقبل القريب.
روسيا دولة تنفيذ المصالح والأطماع
منذ تفكك الاتحاد السوفييتي في العام 1991، والعالم يعيش في فلك القطب الأمريكي الواحد، الذي استطاع، وبعد سنوات من الحرب الباردة، أن يتوّج جهوده بتفكيك الاتحاد السوفييتي، المنافس الأقوى للولايات المتحدة في ذلك الزمن، ومنذ ذلك الحين والولايات تسعى للهيمنة المُطلقة، كيف لا وهي صاحبة القوة العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية والنفوذ الدولي الذي تجاوز (800) قاعدة عسكرية خارج أراضيها تنتشر على كامل المعمورة، ومن هنا بدأت الرغبة الأمريكية بالهيمنة، فأخذت تُدير أزمات العالم وتسعى لتغيير أنظمة وحكومات تتماشى مع مصالحها العليا لتُحقق بذلك مكاسبها على جميع الأصعدة، وما النظام الذي يحكم روسيا إلا صناعة أمريكية بطريقة أو بأخرى، وقد بدأ العمل عليه منذ استلام بوتين خلفاً لبوريس يلتسين في العام 2000، وبعد لقاء الرئيس الأمريكي جورج بوش مع بويتن في عام 2001 تبلورت قواعد اللعبة في جعل القاسم المشترك بينهما "الحرب على الإرهاب"، بدا حينها التوصّل إلى التوازن صعباً ولكنه ضروريٌ بحسب أمريكا، نتج عنه تغاضي أمريكا عن غزو الروس لجورجيا في العام 2008 لضرورات معينة.
في العام 2009، حين تولّت هيلاري كلينتون حقيبة الخارجية في بلادها صرّحت حينها بأنَّ "تهديد روسيا ليس من مصلحتنا، في وقتٍ نحتاج إلى التعامل معها على قضايا معيّنة"، وأسمته كلينتون حينها "بالنقاش الكلاسيكي"، لذلك أطلقت في العام ذاته مع الرئيس أوباما مشروع تحقيق المصالح الوطنية الأمريكية الرئيسة مع روسيا وأسمته نهج "إعادة الضبط"، وكلفت السفير الأمريكي في روسيا (بيل بيرنز) بالتخطيط لهذا النهج والعمل عليه في فترة ولاية مدفيدف، وقد أثنى (جو بايدن) حين كان نائباً للرئيس الأمريكي على هذا النهج بكلمته في مؤتمر ميونخ/ فبراير- 2009، حين قال: (علينا الضغط على زر إعادة الضبط حيث يمكننا العمل مع روسيا في مجالات اهتماماتنا ومصالحنا المشتركة).
استعاد بوتين رسمياً لقب الرئيس في مايو 2012 ليُطلقَ مشروعه "التكامل الإقليمي"، في إشارةٍ لاستعادة النفوذ الروسي من أوربا الشرقية إلى آسيا الوسطى ويناقش الأمر مع الرئيس أوباما على هامش اجتماعات قمة العشرين في المكسيك، لتُدرك الإدارة الأمريكية حينها أطماع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وبأنَّ دورها، بقيادة بوتين، صاحب السلطة الروحية، لا يتعدى حدود الامتيازات والامتطاء، فهي دولة انفعال وليست دولة أفعال، فسمحت لبوتين بالضغط على حكومة الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، عام 2013، للتخلّي عن علاقاته الوثيقة بالاتحاد الأوربي ومن ثم فككت حكومته وغزت شبه جزيرة القرم وضمتها.
الموقف الأمريكي من الغزو الروسي لأوكرانيا
يتكررُ المشهد مرةً أخرى في الغزو الروسي لأوكرانيا، بظل ولاية الرئيس الحالي (جو بايدن) والتي تُعتبر "الولاية الثالثة لأوباما"، من حيث التفاصيل وربما النتائج المشابهة لشبه جزيرة القرم، فالتصريحات الأمريكية على لسان الرئيس بايدن واضحةً وضوح الشمس في عنان السماء، بأن لا تدخل عسكري أمريكي في هذه الحرب ولن نشترك في القتال وسيقتصر وجودنا على الدفاع عن كل شبرٍ في أراضي (الناتو)، هذه التصريحات التي تحمل في طياتها جدلاً عارماً ووجهين صارخين بالتناقض لا وجود فيه لحوار العبور لبر الأمان، لتُترك أوكرانيا وحيدةً في وجه العاصفة، وكأنَّ الولايات المتحدة أعادت بهذا استثمار الغرور الروسي لتضييق الخناق على منافسها الوحيد "الاتحاد الأوربي" من خلال إمدادات الغاز الروسي الذي سيلعب دوراً محورياً بارتفاع كلفة المواد المصنعة في أوربا بسبب ارتفاع سعر الطاقة، وبهذا تكون الولايات المتحدة قد أوجدت الحاجة الماسة الأوربية بتواجد أمريكي أكبر على أراضيها سيكون مُكلفاً جداً لضمان الحماية من البطش الروسي وضمان تدفق الطاقة، لتنفرد بالهيمنة دون منافسة أحد.
ما تبقى من هذا الشتاء لن يكون دافئاً نسبياً ولا حتى سياسياً، فواقع الأشياء يناقضه الطرح ولن يكون التاريخ بشمائله الدينية والسياسة كافياً لتحديد الملامح التي سيؤول إليها الفصل الأخير على الاتحاد الأوربي، وكأن زر إعادة الضبط الأحمر الذي أهدته كيلنتون لنظيرها لافروف في الصالون البانورامي في فندق إنتر كونتيننتال في جنيف والممهور بعبارةٍ روسية (بيريغروزا) قد أُعيد الضغط عليه مرةً أخرى.
ليفانت - فهد الرداوي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!