الوضع المظلم
الأحد ١٩ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
أمراءُ الحرب.. حيتانُ المال
عبير نصر

بعد 2011 اختفت تقريباً طبقةُ التجار التقليديين الذين كانت غالبيتهم من أبناء مدينتي دمشق وحلب، المعقلين التقليديين لطبقة البرجوازية السورية، إذ نقل عددٌ كبير منهم أموالَهم إلى الخارج، بعدما قضتِ الحربُ على تجارتهم وأعمالهم، ومنهم من صادرتِ الدولةُ أصولهم بحجة دعم المعارضة، وما تبقى منهم في الداخل تقلّص نفوذه لعدم قدرتهم على رفد الميليشيات الحكومية بعناصر من بيئاتهم المحليّة. ومن المثير للاهتمام أنّ غالبية رجال الأعمال كانوا من خلفية سنيّة، باستثناء الدائرة الداخلية للرأسماليين المحاسيب. وفي الحقيقة لم تحدث انشقاقاتٌ جماعية من قبل رجال الأعمال السنّة المقربين من النظام، بل على العكس، أخذ هؤلاء يضطلعون بدورٍ سياسي متعاظم. في البداية موّلوا المسيرات الجماهيرية المؤيدة، وحملات العلاقات العامة، في حين سعت وسائل الإعلام الخاصة، التي يملكونها، إلى تشويه رسالة المتظاهرين وتعزيز دعاية النظام. الحرب


وفي وقتٍ لاحقٍ، انخرط هؤلاء أكثر في تمويل الميليشيات التي تدافع عن النظام، ولم تنجح العقوبات المبكرة، التي فرضتها جهاتٌ دولية وإقليمية مختلفة، في إقناعهم بالتخلّي عن دعمِ الأسد. في المقابل عاقب الأخيرُ رجالَ الأعمال الذين قدّموا دعمهم العلني للانتفاضة السورية من خلال مصادرة ممتلكاتهم، أو رميهم بتهمٍ قانونية واهية في (محاكم الإرهاب) الناشئة حديثاً. فمثلاً شهد فراس طلاس، الذي غادر البلاد بعدما عبّر عن دعمه الصريح للمعارضة، على استيلاء النظام السوري على مختلف أصوله داخل البلاد. وأما النخب التي وقفت على الحياد ولم تدعم النظام كما يجب، فتمّ استهدافها أيضاً، حيث جرى الاستيلاء على أصول 11 شخصاً من أفراد عائلة غريواتي، كذلك على أصول موفق القداح، وذلك بعد اتهامه عام 2014 بـتمويل المجموعات الإرهابية المسلحة. رغم أنّ العائلتين لم تُعلنا موقفاً صريحاً من الحرب، من منطلقِ النأي بالنفس، كما فعل، بدوره، الدمشقي نبيل الكزبري، الذي تخلى عن منصب إدارة شركة الشام القابضة، وانسحب من الشركة نهائياً، وكان ذلك في الشهر الرابع من العام 2011، ليغدو الوحيد من بين رجال الأعمال، الذي كان حساساً لكلّ خبرٍ يربط اسمه بنظامِ الأسد. الحرب


ومع تفاقم الحرب، ازدادت حاجةُ النظام السوري إلى المال، لتغطية نفقات جنوده وآلياته وأسلحته. فجاء دورُ رجال الأعمال للتسديد مقابل الثمار التي قطفوها خلال سنوات الرخاء التي سبقت الثورة، ما اضطر الكثير من النخب الاقتصادية السنيّة إلى مغادرة البلاد ونقل رؤوس أموالها إلى الخارج. ويُقدّر مجموع السحوبات التي تعرّضت لها البنوك السورية مع نهاية 2012 بنحو عشرة مليارات دولار. وفي مواجهة النظام الدموي أقامت بعض شرائح البرجوازية السورية المغتربة (منتدى الأعمال السوري) الداعم علناً للمعارضة، في وقتٍ استمات فيه بعضٌ من رجال الأعمال، الذين ابتسمت لهم الحرب السورية، في الدفاع عن عرش الأسد، وأهم هؤلاء على الإطلاق المدعوّ (سامر فوز)، الذي قام بشراء أصول بعض رجال الأعمال (المنبوذين) الذين غادروا سوريا، وبسعرٍ منخفض، بفضل اتصالاته الوثيقة مع رأس النظام. كما قام بالتحالف وعماد حميشو مع (الفرقة الرابعة)، فبعدما تقوم عناصرها بالاستيلاء على الخردة والحديد من المنازل والأحياء المدمرة، يتوليا مهمةَ شحنها إلى مصانع الصهر في المنطقة الصناعية في حسياء، ثم إلى ميناء اللاذقية للتصدير.


وسامر فوز، وفي مدينته اللاذقية، عمل بإيعازٍ من نظام الأسد على شراء الأراضي والعقارات لمصلحة جهاتٍ مجهولة على علاقاتٍ وثيقة مع إيران، كما موّل ميليشيا (درع الأمن العسكري)، وعمل جاهداً لإنقاذ سمعة النظام، فعقد عام 2019 اجتماعاً إسعافيّاً في فندق شيراتون دمشق، حضره عددٌ من (حيتان المال السوريين)، بهدف دعم الليرة السورية المنهارة، ليقول، وبنبرة آمرة، جملته الشهيرة: (الكلّ بدّو يدفع). في المقابل هناك حالات مستجدّة جديرة بالملاحظة، كظاهرة أمراء الحرب، الذين استفادوا من الفرص التي أتاحها رحيل شبكات النخبة التجارية التابعة، وأبرزهم حسام قاطرجي، مواليد الرقة، الذي عمل وسيطاً لتجارة النفط والحبوب بين النظام وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وتنظيم الدولة الإسلامية، ليحصلَ على مكافأة من قبل النظام تمثّلت في انتخابه كعضو في مجلس الشعب لدورة عام 2016 ممثلاً لمحافظة حلب. الحرب


وعلى صعيدٍ آخر يكاد يكون الاسم الحلبي العريق، عبد القادر السنكري، الأكثر استمرارية وحضوراً، بين جميع رجال الأعمال الذي أعلنوا دعمهم وولائهم للثورة. الأمر الذي تعامل معه بشار الأسد، على أنّه نشاط معادٍ له شخصياً، وهو من أوائل رجال الأعمال الذين طال الحجز الاحتياطي أموالهم وممتلكاتهم في العام 2012. إلا أنّ ذلك لم يثنهِ عن الاستمرار في نشاطه الإنساني في مناطق المعارضة داخل سوريا، وفي تجمعات السوريين ومخيماتهم في تركيا، شأنه شأن الملياردير أيمن الأصفري، الذي كان أحد أبرز الممولين لمؤتمرات المعارضة والمشاركين فيها، ورداً على هذا الموقف، حاول النظام تشويه سمعته إلى أقصى ما يمكن، حيث اتهمه بالفساد، وادّعى أنه حصل على قروضٍ بمئات ملايين الدولارات من المصارف السورية، وهرب بها. وبعد 2016 تحدّث الأصفري عن مشاريع إعادة الإعمار على وجه الخصوص، وقدّم في هذا المجال رؤيته، التي أكدت أنه لا يمكن القيام بها، بالاعتماد على الروس والإيرانيين فقط، ليس لأنهم لا يملكون المال، وإنما لا بدّ أن تشاركَ الدول الكبرى والخليجية في هذه المشاريع، وهو يشترط للبدء بها، إيجاد تسوية سياسية، تبعد النظام المجرم، بحسب وصفه، وقبضته الأمنية والاقتصادية عن البلد. الح رب


وبعد عشر سنوات من بداية الثورة السورية، يبدو أنّ هناك الكثير من الأسباب التي جعلت رجال الأعمال الذين دعموا الثورة، يفقدون الأمل بالتغيير. أبرزها الواقع البائس للمعارضة السورية نفسها، والشعور بعدم الجدوى، وطول أمد الأزمة دون أيّ أفق يُذكر. بالإضافة إلى الضغوط التي بدأوا يتعرضون لها من الدول المقيمين فيها، وبالذات الإمارات. كحال وليد الزعبي، وهو من مؤسسي مجلس رجال الأعمال للتنمية والإغاثة في العام 2012، الذي ضمّ كذلك، خالد المحاميد، وغسان عبود، وعبد القادر السنكري، وغيرهم الكثير، والذي تعرض للتحقيق معه من قبل دولة الإمارات، حول الدعم المالي الذي كان يقدمه للمعارضة، وهو ما دفعه للتراجع وإعادة حساباته، والانكفاء على أعماله الخاصة فقط. وكبرهانٍ أكيدٍ على فرضيةِ انتصار النظام السوري، أعلن رجل الأعمال ورئيس (رابطة التجار السوريين) في الكويت، فهد خضير، تحويل مبالغ ضخمة من الأموال إلى داخل سوريا، من أجل تحسين قيمة الليرة السورية، وقال خضير (إنه بالتعاون مع عددٍ كبير من التجار ورجال الأعمال، بدأت الرابطةُ بخطوات جدية لدعم الليرة السورية عبر عدّة مراحل). ولم يصدر أيّ تصريح من قبل حكومة النظام حول هذه المبادرة الفردية الإعلامية.


ومع استمرار الأزمة السورية، واستفحال الفساد والمحسوبيات في الإدارات الحكومية، ونفوذ مجموعات أمراء الحرب وحيتان المال، وتشديد العقوبات الغربية، وخروج الثروات الأساسية من سيطرة الدولة السورية، يستمر الوضع بالتراجع، ويدلُّ على ذلك التضخم شبه المنفلت وتدهور قيمة العملة الوطنية، ويبدو أنّ كلَّ من تفاءل بالتغيير السياسي في البلاد، أوغل كثيراً في طموحاته، فها هو بشار الأسد يفوز بفترةٍ رئاسية رابعة، في وقتٍ تثبت فيه المعارضة السورية فشلاً ذريعاً في إيجاد بديلٍ، ولو مؤقتٍ، للنظام السوري. الحرب


ليفانت -  عبير نصر ليفانت 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!