الوضع المظلم
السبت ١١ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • "آخر المسيحيين" على شاشة بي بي سي نيوز - عربي: شيطنة الأكراد

lebanon-like-never-seen-before-photos-rami-riz

أولاً وأخيراً


سيبان حوتا


للأفلام الوثائقية دور كبير في تأريخ وحماية الأحداث من الضياع. فهي بمثابة ذاكرة دائمة الحضور يمكن الرجوع إليها متى لزم الأمر واستدعت الحاجة أو الضرورة. على سبيل الذكر لا الحصر، الأفلام التي تناولت الأحداث الانعطافية في حياة المجتمعات والشعوب والبلدان، أو الشخصيات البارزة والمؤثّرة في حيوات بلد معيّن، أو الأشرطة التي وثّقت مجريات وتفاصيل الحربين العالميتين الأولى والثانية.


 


وعلى النقيض مما سلف ذكره أيضاً، يمكن توظيف الأفلام الوثائقية لتشويه التاريخ وتزوير الحقائق بهدف التوظيف السياسي أو الديني أو الاقتصادي، أو لتحقيق أهداف سياسيّة تصبّ في خدمة أجندة معينة. وإذا كان يفترض بالمؤرخ أن يكون محايداً وموضوعياً، عندما يكتب الأحداث، لتكون مرجعاً، كذلك يفترض بصنّاع الأفلام الوثائقية أيضاً هذا الأمر، لجهة أن هذه الأشرطة لا تقل أهمية عن الكتب والمراجع التاريخية، وربما أكثر أهمية منها، لأنها أسرع انتشاراً، ومن السهل الوصول إليها.




عرضت قناة "بي بي سي نيوز - عربي" ضمن برنامج "عن قرب" شريطاً وثائقيّاً بعنوان "آخر المسيحيين"، أعدّه وقدّمه مراسل القناة إيلي ملكي، وصوّره وأخرجه Jeremy Bristow. وطبقاً لبيانات الفيلم، فإنه خضع لتحرير Christopher Mitchell: رئيس تحرير الوثائقيات في القناة. وبحسب تقديم "بي بي سي - عربي" للفيلم، ونشرته على موقعها، فإن هذا الشريط "... وثائقي يرصد مصير مسيحيي تركيا والعراق" .


 


وإذا كانت هيئة التلفزة والإذاعة البريطانية (B.B.C) كمؤسسة عريقة، مشهود لها بالحياد والموضوعية أثناء تناول الأحداث والأخبار العادية، فيفترض أن تكون جرعة الحيادية والموضوعية اكبر وأكثر، إذا ما تعلّق الأمر بالأفلام الوثائقية، خاصة أثناء تناول قضية شائكة ومعقدة ومصيرية وتاريخية من قضايا الشرق الاوسط الإليمة والمزمنة كقضية المسحيين وماضيهم وحاضرهم ومصيرهم ومستقبلهم. ولكن، حكاية هذا الفيلم مع الحيادية والموضوعية، مشكوك فيها ومشتبه بها! ويمكن تسجيل النقاط التالية، تأكيداً على النتيجة السالفة الذكر:




1 - يذكر معدّ ومقدّم الفيلم أنه ينحدر من عائلة هي أيضاً من ضحايا المذابح، وقال: "أنا أيضاً تربطني بهذه المذابح علاقة شخصية" حيث اعتقل وعذب وقتل أحد أجداده (رجل دين) على يد السلطات العثمانية. وبالتالي، كيف يمكن التعويل على وثائقي محايد وموضوعي، يقحم فيه المعدّ والمقدّم نفسه في الفيلم، بوصفه من الضحايا أو من سلاسة الضحايا. وعليه، من البديهي أن يرجّح "الضحيّة" أو مَن يعتبر نفسه ضحيّة، سرديّته في رواية الأحداث في هذا الفيلم، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وهذا ما كان واضحاً، من ألف الفيلم إلى يائه.




2 - وظّف المُعدّ صوت الفنان الكردي "شفان برور" في اغنيته المشهورة "بجي بيمشركة" أثناء الحديث عن مجموعات حماة القرى، المرتزقة القرويين الكرد التابعين للجيش التركي. وفي ذلك خلط وتشويه متعمّد للبيشمركة (الفدائيين الكرد) أثناء الحديث عن انتهاكات المرتزقة التابعين للجيش التركي.




3 - حاول معدّ الفيلم تمرير بعض المقولات السياسية التي تتعلّق باتهامات التطهير العرقي وإلصاقها بالاكراد على لسان مرافقه وشريكه في رحلة الفيلم "إيلو إيلو" القادم من السويد: "لماذا يريد الأكراد تغيير الطبيعة السكانية والديموغرافية؟". وهذا الاتهام تكرر في الجزء الثاني من الفيلم أيضاً، أثناء تواجد إلي ملكي في كردستان العراق أيضاً.




4 - جاء في الفيلم أن العجوز دريدو المسيحية التي تتحدث بلغة كردية (كرمانجية) تعيش محاصرة بين عائلات كردية "معادية لها" كما قالت. وأن (الكرد) استولوا على منازل المسيحيين في قرية زاز (المسيحية) السؤال هنا: لماذا يتم تحميل الكرد مسؤولية صراع وحرب تشنها تركيا على أكرادها منذ 1925؟! بكل تأكيد هناك انتهاكات اقترفها حزب العمال الكردستاني، وهناك انتهاكات أكثر وأكثر اقترفها المرتزقة الكرد (حماة القرى) التابعون للجيش التركي. ولكن في كل الاحوال لا يمكن تحميل الكرد بشكل عام مسؤولية هذه الانتهاكات. بدليل ان الفيلم يذكر أن هناك أكراد آخرين انقذوا بعض العوائل المسيحية الارمنية والسريانية من المجازر وعاشوا اخوة متحابين مع السريان والارمن. وللاسف، تقاطع الفيلم او حاول تأكيد، بعض السرديات ذات النفس التعميمي العنصري التي تتهم الأكراد بشكل عام بالمشاركة في مذابح الأرمن، رغم أن بعض المجموعات الكردية الموجودة في "الفرق الحميديّة" التابعة للجيش العثماني، هي وحدها من اشتركت في المذابح، بأمر من السلطة العثمانية. كذلك ساهم الفيلم في تعميم الاتهام بحق الكرد في تركيا، رغم أن الضالع في تلك الانتهاكات الاخيرة هي ميليشيات حماة القرى، التابعة للجيش التركي!




ما تعرض له الكرد في القسم التركي في الفترة التي تتحدث عنها العجوز دريدو في الفيلم يفوق التصور، من سياسات الصهر القومي ومحو الهوية الكردية ومنع الكرد من التحدث بلغتهم الأم، وبات كل شخص يتحدث الكردية متهم بالإرهاب. وهناك مفارقة معروفة، كشف عنها الفيلم أيضاً، هي تكلم العجوز السريانية دريدو بالكردية، بينما مختار القرية الكردي الذي وافق على التحدث للمراسل يتحدث التركية؟! ما يؤكد صحة الظلم الذي تعرّض له ليس الكرد والمسيحيين فقط بل جميع طوائف تركيا وشعوبها. ورغم أن المختار على أن دريدو تحت حمايته وأنه أخبرها في حال تعرضها لأي تهديد أن تلجأ إليه. لكن المراسل ملكي، يعود ليشكك في كلام المختار! وكان حرياً بالمراسل اللجوء في هذه الحال، لو أراد قطع الشك باليقين، التواصل مع الباحثين والمؤرخين من الطرفين الكردي والمسيحي لإثبات صحة إحدى الروايتين، لا أن يعتمد على إيميلات شخصية، ربما تكون وهمية. وأن يبعد نفسه من إطلاق الأحكام، باعتباره محايداً، يقف على مسافة واحدة من كل الاطراف، ويترك إطلاق الأحكام للمشاهد!




5 - معلوم أن الصراعات المسلّحة والحروب الأهليّة في أي بلد، تتسبب في تلف وتدمير الانسجة الاجتماعية والبشر والحجر. لكن الفيلم يأتي على ذكر الصراع المسلح بين حزب العمال الكردستاني والجيش التركي في الثمانينات والتسعينات، ويتهم حراس القرى وهم من ناصروا الجيش التركي ضد الكردستاني بتهجير المسيحيين من قراهم والاستيلاء على أراضيهم بقوة السلاح. وهذا صحيح. ولكن الفيلم يحيل هذا السلوك إلى كل الأكراد، ويتهم شعباً على استخدام عبارات او مفردات ذات دلالة جماعية. وأن الأكراد يريدون تغيير هويّة المنطقة (المسيحيّة) إلى كردية، علماّ أن في ذلك الصراع تم احراق وافراغ 4500 قرية كردية أيضاً، وتهجير ما يزيد عن 4 مليون كردي من كردستان تركيا إلى المدن الكردية الاخرى.




وغفل او تجاهل معد ومقدّم الوثائقي تماماً الحديث عن ترميم البلديات الكردية في تركيا العديد من الكنائس والاديرة ودور العبادة المسحية واليهودية! وعليه، كيف يمكن اتهام الاكراد بانهم يمارسون الضغوط على المسحيين في كردستان تركيا، ويهدفون إلى تغيير هوية المنطقة! وفي الوقت عينه، يشرفون على اعادة بناء وترميم دور العبادة المسيحية السريانية والارمنية في دياربكر وماردين ومناطق أخرى من جنوب شرق تركيا!؟ واللافت أن ملكي التقى بمحافظ دهوك (كردستان العراق) للتحرّي عن أوضاع المسيحيين، في حين تجاهل لقاء رئيس بلدية ماردين أو رئيس بلدية دياربكر، أيضاً لنقل انتقادات وهواجس وقلق المسيحيين هناك!؟




6 - في القسم العراقي المتعلّق بالفيلم، كذلك هناك عبارات تنمّ عن ردود أفعال غاضبة ومعادية للأكراد، وردت على ألنسة شهادات شاركت في الفيلم، ضمن رحلة سياحية آتية من الغرب إلى كردستان. على سبيل الذكر لا الحصر: "انهم يهدفون إلى دفع السكان إلى الرحيل"، "محبط لنا، نحن مجرّد زوّار، تخيّل كيف يعيش أهالي البلدة"، "لا يوجد أكراد في قرية قوش. كيف يفرضون هذا التفتيش. أنا غاضبة جداً (المشاركة في الفيلم الآتية من الغرب، تتحدّث عن حاجز تفتيش أمني يحمي القرية) دمي يفور غضباً عند رؤية هذه الاعلام (الكردية)!" ليضيف المراسل: "من الواضح أن نقطة التفتيش هذه غير قانونية لأنها مقامة على أرض تخضع للسلطة العراقية". مجدداً يفرض ويقحم المراسل رأيه. وما يثير الانتباه لاحقاً ظهور قوات البيشمركة وهي تحمي احتفال آكيتو المسيحي!




7 - من المفترض أن الفيلم مخصص أيضاً لعرض وكشف ما تعرّض له المسيحيون من إبادة على أيدي إرهابيي "داعش"، لكنه وصل إلى الدقيقة 38، وبدأ الحديث عن التنظيم الإرهابي بشكل عابر. وجل التركيز كان على أن الاكراد هم الذين يضطهدون ويظلمون المسيحيين، وعبر التاريخ وحتى هذه اللحظة! وفي هذه الحيثية أيضاً، أثناء الحديث عن "داعش" أو يفترض أنه حديث عن جرائم "داعش" بحق المسيحيين، انزلق الفيلم مجدداً نحو إدانة الأكراد، على أنهم لم يدافعوا عن المسيحيين، وأن تنظيم "داعش" كان يمرّ أمام اعين الكرد، وانه أثناء الانسحاب، أخذ الأكراد أسلحة المسيحيين"! واعتقد أنه كان يفترض أن يكون سياق الفيلم من الجنوب إلى الشمال، لا العكس. يعني، التركيز على النكبة والكارثة الإنسانية التي حلّت بالمسيحيين في الموصل، مروراً بأوضاعهم في كردستان العراق، وصولاً لأوضاعهم في تركيا.


 


علاوة على ذلك، تجاهل الفيلم تماماً أي شهادة من البرلمانيين المسيحيين في برلمان إقليم كردستان العراق المشاركين في السلطة التشريعية. كذلك تجاهل طرح أسئلة عن اوضاع المسيحيين على المطران داوود شرف، الذي شارك في الفيلم!


 


ويختتم ملكي فيلمه بعبارة اتهاميّة وإدانيّة مفخخة، هي: "هذا الشعب القديم مهدد بالانقراض، إلاّ إذا تغيّرت نظرة أغلبيّة السكّان إزاءهم"، ويقصد بذلك الأكراد، وليس المسلمين، على أن الاضطهاد الذي يتعرّض له المسيحيون هو على أساس قومي وليس ديني! والمضحك أن المشهد الذي رافق هذه العبارة، تكفّل بتفنيدها، حين ظهر مقاتل بيشمركة كردي، وهو يحمي احتفالاً دينيّاً وتاريخيّاً آشوريّاً في عاصمة إقليم كردستان العراق؛ أربيل.




وبلغت السذاجة "التوثيقية" ذروتها حين اعتمد مقدّم الفيلم على الشخابيط الموجودة على بعض الاماكن الأثرية، بهدف توجيه الإدانة الجماعية للكرد، على انهم يريدون تشويه ومحو هوية المكان! ولم يسأل نفسه؛ كيف يكون المسيحيون الآشوريون مقموعين ومضطهدين في كردستان العراق إلى هذه الدرجة، وقد لجأ معظم مسيحي الموصل ومطرانهم إلى عاصمة أقليم كردستان هولير-أربيل، ويمارسون شعائرهم وطقوسهم الدينية، في حماية الامن الكردي؟!




كذلك يأتي المراسل على ذكر إخفائه الكاميرا على نقطة التفتيش، ليضيف بعض المنظمون "أنهم لا يريدون الكاميرات أن تصور للغرب حقيقة ما يجري هنا. لا يريدون أن يظهر ما يحدث في هذه المنطقة للعلن. يحاولون عزل الحقيقة". والسؤال؛ أية حقيقة يمكن إخفاءها في هذه الأيام حيث بإمكان مراهق الوصول للملايين من خلال هاتفه النقال؟! وكيف يمكن عزل الحقيقة وأعداد الصحفيين الأجانب في أقليم كردستان يفوق المئات، بالإضافة إلى وجود بعثات دبلوماسية أوروبية في كردستان؟!


 


الوثائقي "آخر المسيحيين" عدا عن افتقاره للمهنية والموضوعية، فهو تكرار لمقولات بعض المتعصّبين السريان والأرمن على مدى عقود خلت، الهادفة إلى شيطنة الأكراد بالجملة، وبثّ الكراهية بين الشعوب. وإذا كان الاكراد قد اعتادوا على هكذا نمط ونسق من الخطاب المعادي، فما هو غير الطبيعي أن تصبح الـ"بي بي سي" منصّة لهكذا خطاب! السؤال الأبرز هنا: لو تُرجم هذا الوثائقي كاملاً وحرفياً إلى الإنكليزية وقُدِمَ لقناة بي بي سي الإنكليزية، هل ستقبل القناة عرضه؟ أم أنها ستلتزم بسوية أعمالها واحترام مشاهديها؟

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!