الوضع المظلم
السبت ٠٤ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
آخر السنة.. طفل غزة يرسم الحرب في الملجأ
رقية العلمي

الصمت المصحوب بالتوتر يخيم في الجوار، صمتت الأصوات حول الدور، الهلع يجعل الليل موحش والنهار قاسي.

أهوال الحرب غيرت كلّما كان، ذكريات دُفنت مع أصحابها الذين غابوا بين الركام، أخفى الوجوم ذكريات صورت المكان والإنسان فتلاشت إطارات الصور المعلقة على جدران، غير أن صور حنظلة ما زالت ثابتة في الوجدان.

القصف بعثر أجساد الأطفال ولعبهم ودفاتر يوميات دونها مجهول، هؤلاء من قضت أهوال الحرب على أحلامهم وآمالهم وأنهت عمرهم!

مساء هذا اليوم الأخير المسافر إلى البعيد، الريح تزعق بالعواء وتروي مع بعض الرواة، بقايا قصص عتيقة، كلمات تعوم نحو مجرى النهر تنساب بقوة من المنبع حتى البحر، تحكي للجداول والشلالات المواقف الصعبة حول عام مرّ في طياته مآسي وقسوة في العيش... عام التشرد والهدم والرحيل، لكن المؤسف، في نهاية مسار النهر لما تختلط المياه العذبة والمياه المالحة، ستضيع الأصوات وهي تصارع الأمواج.

العام يغرب، وشبح الحزن والأسى يمر مسرعًا، يمسح على وجه الطفل الصغير، يطبع علامات حيرة ودهشة، إنه الذهول، وهو يحاول البحث عن أبويه وأهله وجيرانه وكل الأصدقاء؛ أين رفاق الدراسة تسأله الطفلة؟ يومًا ما في هذا المكان، كانت هنا مدرستنا، لك الصفوف والملاعب والمكتبة سواها القصف بالأرض.

رأس سنة جديدة والمناطق المخيمات والشوارع يضيق عليها الخناق. بينما المطر ينهمر بغزارة على الخيام القابعة هناك في البعيد مياهه تبلل حذاء الطفلة ورذاذاته تعلق على جسدها النحيل عينها عرفت طعم الملح لما اختلطت دموعها مع المطر.

في عقل أطفال غزة أسئلة جافة أجوبتها قاسية أهي حقيقة أكيدة: الميت تماماً كالميت لا يعود؟

عام آخر ينقضي وفي ذيله يسجل التاريخ العيش في مخيم جديد للاجئين، مخيم أغرقته مياه المجاري الملوثة، والطفلة ماسكة بيد عمتها، تشد ثوبها خوفاً من السقوط في وبين الوحل والطين، تحدثها عن صديقة جميلة كان اسمها خضرا شعرها أشقر وجدايلها طويلة، هي أجمل من أن توصف، لكن الغارة أنهت حياة خضرا، وأني يا عمتي إذ أراها تحلق هناك إلى البعيد.

هذه الليلة الأخيرة من العام، تسري عدوى التعاطف إلى العالم، لكن وسط الاحتفالات بالعام الجديد الكل يتناسى عائلات هناك في غزة تفترش العراء تجمع الحطب، وتبحث عن عشب أخضر في سهول باتت بعيدة، وما يزل الكون يتلقف أخبار الجوع والعطش دون أي تحريك ساكن، ويستمر في اللهو والسمر.

"لماذا؟" يسأل الأطفال.

أين منا أناشيد البراءة؟

ليس صدفة أن يقف طغاة العالم متفرجا على هذا المكان، على هذا الزمان، دون اكتراث، فالعالم يظن بأن الطفل الفلسطيني معتاد على الحياة القاسية ولا بد أنه سيتأقلم.

هذا هناك في العالم البعيد، أما هنا في العالم القريب رأس السنة هناك طفل يتيم يبكي بحرقة، ونحن نعيش حالات غير عادية، من غير الممكن نضحك ونمرح بينما الدمار والرماد حولنا وأبناء في الخيام لا أحد يعرف عن مصيرهم شيئا.

تضيق المساحات والمسافات

في ‫غزة عندما انتهت ورديته رجع لتفقد حال أهله، أستأذن لساعات، ثم سأعود.

وجد بيته أصبح أثرًا بعد عين، والقتل غيب كل أفراد أسرته العمارات في الحي صارت إلى حطام وأشلاء وجثث وأجساد الموتى متناثرة هنا وهناك في أزقة وحارات كانت حتى الأمس مكتظّة بالرجال والنساء والأطفال، بيوت خلت من أصحابها هؤلاء سكان كان لديهم آمال وأحلام في لحظة بكاملها اشتعل كل شيء فجاءت القنابل ومحت كل أثر لهم.

جرب النظر من خلال الدخان المكان صامت أنه صمت القبور وحفنة باتت أطلالا مهدمة ما زالت تحترق فتحولت خرابًا مس الحجر والإنسان أدخنة تحجب ما وراءها ما أمامها. إلا من شهيق طفل بين غبار الشارع تاهت عنه القنابل انتشله من بين الركام ضمه ومضيا الاثنان معا واختفيا هناك إلى المدى البعيد.

عشية رأس السنة، هل سمعت الخبر؟ تتناوب القطط والكلاب على نهش أشلاء الموتى المكومة بين الحطام

جثث غير مدفونة

بقت دون شعائر صلوات الجنازة

لم يشيع النعش نحو المقابر

لا وداع لا أنين وما كان هناك نحيب

تاهب المسافات، من قسوة المحنة، ما ظلّ سوى كلمات هائجة من الغضب تقول ولا تقول

ما كل هذا الظلم؟

إنها الساعة الثانية عشرة تدق والعام القديم يعلن الرحيل، العالم هنا يبكي والعالم البعيد هناك يسهر ويضحك، ونحن مع الحذر ننام، خوفاً من مواجهة الساعة الحقيقة التي ستعلن رحيل عاما كان فيه هذا جور ظلم وأسى وعدوان طاغ.

إننا نخاف ذكريات الأمس، نتوتر من أحداث اليوم ونتوجس القلق حول ماذا سيكون غدا! عام فيه مخاطر تنذر المسير نحو طرق وعرة؛

لكن كان ما قد كان وسيكون ما قد سيكون لكن ستبقى هناك مذكرات أطفال ستسجل أنين الوطن وآهات أمهاته الثَّكالى وحكايات أخرى لا تنتهي، فما بين العقل والقلب لن تضيع الحكاية، حكاية جثث بقيت دون أكفان دون قبور.

ليفانت - رقية العلمي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!