الوضع المظلم
الجمعة ١٩ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
"الدحيح".. ظاهرة بصرية تستحق المشاهدة

الواقع أصبح صورة شاحبة عن الصورة في عصر الميديا، وهذه الصورة هي الأساس وليس الواقع، والصورة تسبق الواقع وتمهد له، الصورة تحدث أولاً ثم تحدث المحاكاة لها في الواقع، لم تعد الصورة محاكاة للواقع، بل أصبح الواقع أشبه بالمحاكاة للصورة.

فالشباب يحاكون سلوك الممثلين ولاعبي الكرة ونجوم الغناء، وما يرونه في الأفلام والمسلسلات الدرامية، والأطفال يحاكون سلوك بعض الشخصيات الخيالية في برامج الكرتون وألعاب الفيديو، وتلعب صناعة الصورة دوراً كبيراً في سلوك بعض السياسيين وبعض نجوم المجتمعات الحديثة.

وصورة الميديا التي تمثل بعض السياسيين في الكثير من بلدان العالم، اليوم، لها دور بارز في نجاحهم في الانتخابات، وفي استمرارهم في أداء مهامهم بشكل ناجح أو فاشل، وما تقدمه القنوات الفضائية اليوم لبعض الأحداث السياسية كثيراً ما يكون أشبه بالمجموعة أو الباقة البصرية المفعمة بالوقائع والصور والأحداث للانفعالات والحواس والذكريات والمشاعر مع أنّها كثيراً ما تكون صوراً زائفة أو شبه حقيقية، ولا تتضمن الحقيقة كلها بسبب ما نعرفه اليوم عن مراقبة الصور والتحكم فيها، وتوجيه الكاميرات إلى زوايا خاصة، في عصر تتعالى فيه كل صيحات الإعلام الحر والمشاركة وديمقراطية المشاهدة.

لكن في إطار الصورة البصرية البرامجية، ظهر على الإنترنت في العام 2014، أول حلقات برامج "الدحيح" الذي يبسط العلوم، يقدمه طالب بالجامعة الأمريكية، أحمد وليد الغندور، وخلال سبع سنوات، عرض منه أكثر من (300) حلقة، حصد أكثر من مليار مشاهدة على فيسبوك ويوتيوب، لمشاهدين من داخل وخارج الوطن العربي، لكن هذا البرنامج توقف في حزيران من العام 2020، وهذا التوقف كشف قدرة هذا البرنامج على الانتشار العمودي، وجذب المتلقين من طبقات اجتماعية وأجيال مختلفة.

يتعرّض الكاتب طاهر المعتز بالله لظاهرة برنامج "الدحيح" في كتاب بذات العنوان، صدر عن دار الشروق في القاهرة بالعام 2021، وكان قد قدم وكتب الغندور عدداً كبيراً من حلقاته، وهو من مواليد السعودية بمدينة جدة 12/5/1994، حيث درس الابتدائية، بينما كان يقضي الصيف في مصر بزيارة أقربائه في مدينة المنصورة، وعرف عنه اهتمامه بالقراءة كثيراً، إذ إنه قرأ "كتب الفيزياء، الأزمة الاقتصادية العالمية، الثورة الفرنسية، والحرب العالمية الثانية"، واكتشف على يوتيوب والأفلام الوثائقية "الضلع الثالث لمثلث برمودا بفترة المراهقة مع anxity self-doubt، لا هو مهرج، ولا الأول على الدفعة، ولا الطالب تامر حسني محطم قلوب العذارى"، ودرس في الجامعة الأمريكية في القاهرة في بداية شهر أيلول/ سبتمبر من العام 2012، وشارك في الجامعة بتقديم أكثر من فيديو لأكثر من مسابقة، وشاهد قنوات مثل (Crash course وقناة v-sauce التعليمية)، وفيديوهات لتعليم التصوير والمونتاج، فصور فيديو عن (epigeheties)، لكنه لم يحز على رضاه، مما جعله يعمل على حلقة خاصة عن ابن مجدي عبد الغني من أجل استغلال (hype) الذي عمله إعلان فودافون عن الكابتن مجدي.

وبعد أن أصبحت الحلقة جاهزة بحث عن اسم، ففكر في اسم "الموس"، فاختار اسماً خاصاً للقناة عبر عنه شخصياً "الدحيح"، وفي 31 آب/ أغسطس 2014، عرضت حلقة ابن مجدي عبد الغني على يوتيوب، وحلقة ثانية عن علم النفس، وحصلت على مئة مشاهدة، وحظي بتشجيع عالٍ من زملائه وأصحابه.

وشارك بتقديم أول نشرة إخبارية في الجامعة الأمريكية، وهذه كانت أول مرة يعمل مع فريق من مخرج ومصور ومعدين، وبذلك تعرف على آلية العمل بين أعضاء الفريق في عالم وراء الكواليس لفريق كامل، على عكس "الدحيح" الذي يعمل به لوحده، فهو الذي كان (يصور، يكتب، يقدم، يعمل كل ما هو موجود في البرنامج، ويبذل الجهد الأكبر للسيطرة على شكل ونوع المحتوى الذي يقدمه). وصنع حلقة المشروب الغازي في مصر، بيبسي كولا، فحصلت على (2000) إعجاب و(500) مشاهدة.

هذا النجاح الجزئي، دفع أمين لجنة الأنشطة في اتحاد الطلبة في الجامعة الأمريكية في القاهرة أن تطلب منه صناعة فيديوهات، لكي يبقى الاتحاد ذا تواجد قوي على السوشيال ميديا عبر مشروع باسم (صالون اتحاد الطلبة)، هدفه كسر الحاجز النفسي بين الطلبة والأساتذة عن طريق تصوير الجانب الإنساني في حياتهم الخاصة، وكان بعضهم معروف بالشدة والحزم في التدريس الجامعي.

وفي نهاية العام 2014، عرض في صالات السينما بالقاهرة فيلم إنترستيلار، وشاهده جمهور كبير، وشارك في بطولته "ماثيو ماكوناهي"، وصنع موسيقاه التصويرية "هانز زيمر"، ولأنّ عدداً من زملائه لم يفهم الفيلم الذي كان يرصد رحلة بحث بشري عن كوكب ثانٍ صالح للحياة البشرية غير كوكب الأرض، طالبوه بصناعة حلقة عنه، فكانت حلقة "نبذات من إنترستيلار أو بين النجوم" التي لاقت نجاحاً جيداً.

وبعد تخرجه من الجامعة، قدم على منحة "جورج سوروس" لدراسة الماجستير في التعليم في (هونج كونج)، وعمل على حلقة عن تاريخ الاقتصاد المصري الحديث لشرح تطور الديون والاحتياط النقدي خلال الأربعين سنة الأخيرة من تاريخ مصر، ولاقت نجاحاً كبيراً، حيث تمت مشاركتها (50 ألف مرة)، وشاهدها خلال وقت قصير أكثر من (4 مليون) مشاهد، وابتدأت العروض تقدّم إلى الغندور، لكنه لم يتفق مع أي جهة، حتى لقائه بـ"محمد حسام، ومحمد رشيد"، واتفق معهما على التقديم دون تحديد الأجر، وجرى العمل على تحديد ملامح غرفة "الدحيح"، وعلى جدرانها بوسترات غربية مثيرة للخيال، منها للفنان غسان مطر ورفعت إسماعيل وصورة الغندور على غلاف التايمز، وزاوية التصوير من فوق كأنّه يتحدث لكاميرا مراقبة. واتفق مع القناة على (12) حلقة في البداية، بمعدل حلقة كل أسبوع، كتب منها عشر حلقات، قام بمونتاج الحلقة الأولى رشيدي.

وأعاد الغندور تصوير (12) حلقة، في آذار/ مارس في العام 2017، تحت رغبة القناة، وبعد انتظار طويل لأكثر من ثلاثة أشهر أعلنت القناة عرض برنامج الدحيح في أول أيام شهر رمضان، يوم السبت 27 أيار/ مايو.

وحصل جدل عام في حلقة صعود اليمين التي ناقشت أسباب صعود الأحزاب والسياسيين اليمنيين حول العالم، حيث هاجمها مجموعة من الملحدين اليمنيين العرب الذين لا يرغبون بالتعاطف مع أي قضية يتبناها المسلمون حتى وإن كانت القضية الفلسطينية.

وفي مباريات منتخب مصر بالعام 2017، أحرز محمد صلاح ضربة جزاء في مباراة مصر والكونغو، عندها قدم مجموعة حلقات عن كرة القدم المصرية كتبها الدكتور أحمد رجب، المسؤول عن القسم الرياضي في أحد المواقع الشهيرة، ومن هذه الحلقات حلقة عن اللاعب (ميسي)، وجاءت حلقة الصين التي حققت نجاحاً كبيراً.

أما مشاركة طاهر المعتز بالله مع الدحيح فكانت بحلقة "أدولف هتلر"، الفنان البوهيمي الذي أخفق في الرسم، فقرر أن يحتل العالم، حيث حققت نصف مليون مشاهدة على يوتيوب في أول يوم عرض.

ومع نهاية العام 2018، كان البرنامج قد وصل للحلقة (100) بتاريخه، وكانت أطول حلقة في تاريخ البرنامج مدتها (40) دقيقة، التي شهدت إبداع كافة أعضاء الفريق.

ومن أهم الحلقات "تشارلز دارون" التي حظيت بنقاش وجدل كبير في الأوساط الأزهرية من قبل الشيخ عبد الصبور شاهين، الذي كان خطيب مسجد عمر بن العاص، وهو الذي حارب المفكر الإسلامي الراحل نصر حامد أبو زيد، حيث جرى تكفيره واتهامه  بالزندقة، وقدم رؤية أنه لا تعارض بين القرآن والتطور، وشرب من ذات الكأس التي أذاقها للراحل أبو زيد، حيث جرى تكفيره واتهامه بأنه لا يقدم صحيح الدين، وتم تشكيل لجنة من مجمع البحوث الإسلامية للنظر في القضية وأصدرت تقريراً يقول "إن الآيات القرآنية بخصوص خلق آدم رغم عددها الكبير إلا أنّها لا تتطرّق إلى  تفاصيل عملية الخلق، ولا بتوضيح الجدول الزمني لنزولها في القرآن".

أخيراً.. يختم المعتز بالله الكتاب بمجموعة من الدروس المستفادة من العمل في مجال الميديا "إن الحياة لا تسير في خط مستقيم، وإن التغلب على الشك بالفعل والمباشرة، وإن أردت المشي سريعاً فامشِ وحيداً، والطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة، وإنّ الجمهور يحب المحتوى الرديء أسطورة يروّجها صنّاع المحتوى الرديء".

 

ليفانت - بسام سفر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!