-
مذكرات أخطاء طبية
الجميع يتصبّب عرقاً في غرفة انتظار عيادة الطبيب الجراح، هي شقة مؤلفة من غرفتين وحمّام ببابٍ مقفل. كنت أنتظر دوري وسط عشرات المرضى، على الكراسي التي ظفر بها البعض، فيما انزوى البعض الآخر في ركنٍ ما، مسندين ظهورهم إلى الجدار. نظرات التذمر وحّدت ملامحهم وهم ينظرون، بين الفينة والأخرى، إلى الساعة التي لم تحرّك ساكناً. مروحة السقف، المليئة بفضلات الحشرات، تدور ببطء ورتابة. شعرت لوهلةٍ أنني في غرفة أحد المعتقلات. صوت الممرضة الفظ كسر صمت المكان، حين أشارت بيدها كمن يكشُّ دجاجة، قائلة: إنهُ دورك.
دخلت غرفة الطبيب، رد سلامي على عجل، أخبرته عن كتلة شحمية ظهرت مؤخراً تحت أذني. كان يضع نظارة سميكة فبدا وكأن له أربعة عيون، مرتدياً بنطالاً عريضاً ومكوياً بعناية، وحذاءً برأسٍ نافرٍ ارتسمت فيه أصابع قدميه. ظهر بخيالي أحد شخصيات عصر النهضة بصورة كأنها حقيقية. كنت أتجنب نظراته الحادة وهو يسألني على عجلٍ عن الكتلة.
كان يبدو عليه التعالي في ردود أفعاله. فحصَ منطقة الرقبة على جهاز الإيكو، زم شفتيه الرقيقتين، عبس وقال: «لا أستطيع إجراء هذه العملية، هي غدة نكافية، اتخذتْ مكاناً عميقاً. أنصحكِ بإجرائها لدى أطباء العاصمة، دمشق. لا أعتقد أن ثمة أطباء في مدينة القامشلي يجرون هذه العملية الصعبة، لكن...» صمتَ وأكمل الفحص. كنتُ أتتبّع انفعالاته، في عينيه، دون أن أشيح ناظري عنه، وقد ارتسم فيهما الخوف، أعاين في مخيلتي تعابير وجهه المتجهّم لاستقرأ درجة السوء فيما سيخبرني. أردف قائلاً: «ثمة كتلة، يبدو أنها خبيثة، على حلقك. عليك فحصها بعد ستة أشهر» صُعقتُ؛ وكأنني في اللحظة تلك، كنتُ قبالة الموت وجهاً لوجه، بحثت عن فرصةٍ للنجاة، وأخبرته بشفاهٍ مُثقلة، كأنني أنطق لأول مرة، أنني لم أسمع جيداً؛ علّي أتخطى بروحي شكل الموت الذي ظهر في خيالي، لكنه أعاد الكلام نفسه بتذمّر.
كنت أتهرّب مما كان يجول بخاطري، من احتمالات أشكال الموت الفظيعة التي تراءت أمام عيني كشريطٍ سينمائي. سألته مرةً أخرى «هل أنت متأكد من...؟»، قاطعني وجلس على كرسيه بانتظار المريض التالي، قائلاً «هذا كل ما عندي. بإمكانك إغلاق الباب من الخارج لو سمحتِ»، وأشغل نفسه بترتيب الأوراق على الطاولة.
انتهت المعاينة في خمس دقائق، خرجت بخطى مثقلةٍ وكأنني بين النوم واليقظة، أدور في دوامة كلامه. تلاشى كل شيء بداخلي فجأة، حين علا صوت الممرضة وهي تصرخ على الهاتف «ألا تفهم؟! عليك الحضور مهما كان بيتك بعيداً» وأغلقت السماعة بقوة.
عشتُ أياماً عصيبة دون أن أخبر أحداً. كنت في كل لحظة أودّع بروحي الحياة وأعود إليها بزفير الألم وشهيق الحزن. نصحني أخي، أكرم، بعد أن أخبرته بأمري بمراجعة صديقه، الطبيب الجراح. ذهبت لعيادته في صبيحة اليوم التالي، استقبلني بابتسامة كشفت ثناياه المتباعدة، لمست في وجهه الطمأنينة، تنهدات الحزن كانت تقطع جملي وأنا أتحدث عما حصل لي، سألني بغرابة رسمت ملامح وجهه الناصع البياض «عليك أن تصوري صورة شعاعية في المخبر المجاور لعيادتي». أظهرت الصورة الشعاعية أنه لا توجد أية كتلة على الرقبة. غمرتني السعادة وشعرت للحظة بولادة جديدة، فالولادات تتكرر أحياناً كما يتكرر الموت. وعدني بإجراء العملية مع طبيبٍ مختص لأن الكتلة سطحية، عكس ما قاله الطبيب الأول، كنت أشعر بالنجاة خلال المعاينة كمن يصعد سلماً صوب النور من قاعٍ مظلم. تكللت العملية بالنجاح بعد أربع ساعات من جهود كبيرة للطبيبين.
صرتُ أرهب الأطباء بالرغم من نجاح العملية الجراحية، زاد خوفي أكثر بعد الخطأ الطبي أثناء قيامي بتحاليل في إحدى المراكز لفحص نقص الحديد، حتى أن الشكاوى إزاء هكذا قضايا لا تلامس أي تغيير. أخبرت الطبيب الذي طلب مني التحاليل عن خطأ المخبر، فغيّر الموضوع، شعرت أن كلامي لم يلامس تلافيف مخه المطموس بالعمل، خاصة أن غرفة الانتظار كانت تعجُّ بالمرضى، أخبرني أنه مشغول، فأحسست أن علي أن أعض لساني، انسحبت تدريجياً بعد تشخيصه للتحاليل بشكل سريع، كأنني أمشي على أصابعي أو على الهواء، وبصمتٍ، حتى لا أثير انتباهه إزاء تذمره.
خرجت من العيادة وصرخة الكتابة تنادي بداخلي، مساحة الحرية التي قد تسمع أو تظل مبحوحة في الوقت ذاته، وقيد الكتمان.
ليفانت: شيرين صالح
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!