-
ليبيا الشرعية والفوضى ولغة العقل
تعود عقارب الساعة للوراء لتشهد ليبيا من جديد مشهداً من الانقسام سياسياً بعد نحو عقد من الفوضى لتعود البلاد إلى المربع الأول من جديد، فمنذ عام 2014 تتصارع العديد من القوى السياسية والميليشيات المسلحة والجماعات الإسلامية على السلطة تحت معسكرين متحاربين تمثلهما سلطتان متنافستان حول عدة مكاسب، منها النفوذ السياسي والسلطة والثروات الاقتصادية.
فمن بوابة البرلمان، انقسمت ليبيا عام 2014 إلى حكومتين متنازعتين عقب رفض البرلمان قرار المحكمة العليا، أعلى سُلطة دستورية، حيث يمتلك البرلمان الليبي صاحب السلطة التشريعية، المعترف به دولياً، أحقية قانونية لتشريع أي صراع مرتقب. وعلى الرغم من مرور قرابة العقد على الانتفاضة الشعبية ضد نظام معمر القذافي والتدخل العسكري بمساعدة حلف الناتو للإطاحة به لم تشهد ليبيا أي استقرار سياسي، بل صارت ساحة صراع للميليشيات المسلحة المتنافسة على السلطة هناك والتي استدعت بدورها قوى إقليمية ودولية مما حول البلاد إلى ساحة نزاع إقليمي وحروب بالوكالة.
لقد كانت حدة التنافس المستعر بين برلمانَين متنافسَين وثلاث حكومات وبنكَين مركزيَّين وشركتَين نفطيتَين وعدة جماعات تحمل السلاح هو المشهد المسيطر الآن، فتلك الأحداث أدت الى انقسام سياسي واقتصادي وجغرافي متصاعد من حين إلى آخر، حيث تكمن المشكلة في أن وجود ثلاث حكومات تمتلك أحدها شرعية تعترف بها الأمم المتحدة، وهي حكومة الوفاق الوطني التي يرأسها فائز السراج المعترف بها دولياً، والتي تستند إلى دعم ميليشيات المدن الغربية وميليشيات إسلامية في شرق ليبيا وتسيطر على المناطق الشرقية وبعض المناطق الجنوبية في البلاد، وتحظى بدعم البرلمان القائم في مدينة طبرق الليبية وبتحالف مع اللواء خليفه حفتر الذي عاد عبر بوابة البرلمان وتولى منصب القائد العام للجيش، حيث يحظى بدعم قطاعات واسعة من الجيش والقبائل الشرقية وجماعات مسلحة متفرقة في غرب وجنوب البلاد.
وفي المقابل، نجد أن حكومة عبد الحميد الدبيبة ترفض التنحي عن السلطة مستندة في بقاء حكومتها إلى مُخرَجات الحوار الليبي الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة ووضعت سقفاً زمنياً مداه سنة وستة أشهر للسلطة التنفيذية قابلة للتمديد، وفق آخر المستجدات، برغم تسمية مجلس النواب وأغلبية مجلس الدولة الاستشاري لحكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، والذي كان منافساً للدبيبة في انتخابات ملتقى الحوار السياسي، في فبراير/ شباط 2021، كما قدما اسميهما كمرشحين في الانتخابات الرئاسية التي كان من المقرر إجراؤها في البلاد، نهاية ديسمبر الماضي، حيث يرفض الدبيبة التنازل عن السلطة إلا بعد إجراء انتخابات وتشكيل حكومة منبثقة عنها في العاصمة طرابلس ويدعمه في ذلك فصيل جماعة الإخوان المسلمين بليبا، فضلاً عن بعض القبائل الجنوبية، في حين يُصِرّ البرلمانُ على سحب الثقة منه بدعوى فشل حكومته في المهام الموكلة إليها بمحاربة الفساد وتوحيد مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الجيش، وكذلك عدم إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المقرر في ظل وجود حكومتين في البلاد، الأولى أدَّت اليمين أمام مجلس النواب، والثانية ترفض تسليم السلطة إلا لحكومة منتخبة.
ومع غياب تفعيل المحكمة الدستورية للفصل في ذلك الخلاف، لا يمتلك الدبيبة سوى الاعتراض بأن البرلمان ينتهج خطوات غير دستورية برغم أن البرلمان لا يواجه تحرُّكاً فعلياً من مجلس الدولة والمجلس الرئاسي، وبالتالي فإن الأمور تخدم مصلحة باشاغا. وما يعقد المشهد هو أن الحكومات الثلاث تمتلك غطاء من السلاح والمسلحين والحلفاء الداعمين دولياً مما يعقد المشهد بشكل أكبر، ويأتي ذلك في ظل صمت المجتمع الدولي عن الضغط على البرلمان لتثبيت حكومة الدبيبة. ولاشك أن وصول الأزمة إلى طريق مسدود وبوادر الصراع الذي طال المدنيين باستخدام أسلحة خفيفة وثقيلة ليتعارض مع القيم والأعراف والقوانين الدولية، بل يرقى لجرائم الحرب من خلال القصف العشوائي للأحياء المأهولة بالسكان مما سيعرقل من وجود مبادرات سياسية حقيقية تجعل الأطراف تلتقي على طاولة المفاوضات وتقدم تنازلات تنهي هذا الجمود السياسي الذي قد يجعل فعلاً الحرب الأهلية هي الحل المطروح، إضافة إلى أن هناك عوامل أخرى قد تؤجج هذه الحرب، مثل عدم وجود جهود حالية لبناء الدولة ومؤسساتها، وكذلك الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية غير المستقرة والممهدة لصراع أهلي سيعطل مسيرة استكمال بناء مؤسسات الدولة وضياع مقدراتها لسنوات قادمة، وسيدعمه انشغال المجتمع الدولي الآن بأزماته العالمية الحالية، كالحرب الروسية الأوكرانية والصراع الأمريكي الصيني.
فلا صوت سوى مناشدات وتنديدات دولية لتبقي لغة العقل والحكمة بين أبناء هذا البلد هي من سيقرر مصيره القادم.
ليفانت - سعد عبد الله الحامد
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!