-
قفزن في حفرة ممتلئة بالجثث... قصة ناجيات من مسيرة الموت النازية
ترجمات ليفانت
في قصص البي بي سي اليوم 2.1.2022 تطل علينا الصحفية "لويس واليس" لتستحضر قصة من عهد الموت والدمار، قصة مثابرة وأمل وتصميم. التقت لويس غوين شتراوس التي سجّلت قصت عمتها الفريدة ومشت على طريق الموت نفسه وكتبت كتابها لاحقاً بعنوان تسعة.
أرادت غوين شتراوس معرفة المزيد، عندما قالت عمتها أنها قادت مجموعة من تسع نساء عملن في المقاومة إلى الهرب من مسيرة الموت النازية في عام 1945. استطاعت غوين استحضار القصة للعالم ليعترف بشجاعة عملهن بعد أكثر من 75 عاما.
كانت غوين شتراوس تستمتع بغداء هادئ مع عمتها الكبرى هيلين بودليسكي البالغة من العمر 83 عاما. هيلين كانت فرنسية وغوين، كاتبة أمريكية، تعيش في فرنسا.
كان ذلك في عام 2002 وتحولت المحادثة إلى ماضي هيلين. كانت غوين تعرف أن عمتها الكبرى عملت في المقاومة في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، لكنها لم تكن تعرف أي شيء عن ذلك الوقت في حياتها.
وحكت هيلين كيف قُبض عليها من قبل الغستابو وعن تعذيبها وترحيلها إلى ألمانيا إلى معسكر الاعتقال. مع اقتراب الحلفاء، أُخلي المخيم وأُجبرت على السير لأميال في مسيرة الموت النازية المعروفة.
تقول غوين: "كان الأمر يقترب من نهاية حياتها، اعتقد أنها شعرت بالاستعداد للتحدث عن ذلك، وكما هو الحال مع العديد من الناجين الذين التزموا الصمت لسنوات، فإنهم في كثير من الأحيان لم يتحدثوا إلى أسرهم بشكل مباشر، وكانوا يتحدثون إلى شخص بعيد قليلا عن العائلة".
اعتُقلت هيلين بودليسكي في الرابعة والعشرين من عمرها. كانت تعمل كعميلة اتصال للمقاومة في شمال شرق فرنسا. اسمها الحركي، كان كريستين. كانت هيلين تتحدث خمس لغات ضمناً الألمانية، وكانت مهندسة مؤهلة تأهيلاً علمياً عاليا.
تقول غوين: "كانت هيلين فعالة جداً في المقاومة. وقالت " إنها عملت لأكثر من عام في الاتصال بالوكلاء وتوجيههم. لقد كانت عبقرية وشخصية أنيقة وهادئة وقوية".
كانت السنوات الأخيرة من الحرب، اعتقلت هيلين في عام 1944 بعد حملة كبيرة من النازيين في محاولة لتفكيك جميع شبكات المقاومة في فرنسا. كما اكتسحت الاعتقالات في هذا الوقت ثماني نساء أخريات. صديقة (هيلين) في المدرسة كانت واحدة منهن.
سوزان موديت (الاسم الحركي: زازا) كانت امرأة متفائلة ولطيفة وكريمة تقول غوين. وبعد شهر من زواجها في سن الثانية والعشرين من زميلها رينيه موديت، أُلقي القبض على الزوجين لمساعدة الشباب الفرنسيين على الفِرَار تحت الأرض إلى المقاومة بدلاً من تجنيدهم للعمل في المصانع الألمانية.
كانت هناك نيكول كلارنس، المسؤولة عن جميع وكلاء الاتصال في منطقة باريس بأكملها"، تقول غوين - مما وضعها في خطر هائل. وعمرها 22 عاما فقط، وقد اعتقلت قبل ثلاثة أسابيع من تحرير باريس في آب/أغسطس 1944 ورُحّلت في آخر عملية نقل إلى خارج المدينة.
جاكلين أوبري دو بولي (جاكي) كانت أيضاً واحدة من آخر السجناء الذين اقتِيدوا من باريس. وتقول غوين إن جاكي، البالغة من العمر 29 عاما، كانت الأكبر سناً في المجموعة، وأرملة حرب، وجزءاً من شبكة استخبارات رئيسية في المقاومة. ربتها عمته وعمها لأن والدها بحار ويبقى بعيداً.
تقول غوين: "عندما عاد والد جاكي إلى المنزل انتقلت للعيش معه. "كانت مالحة جدا مثل أبيها. كانت تتحدث مثل البحارة وتكلمت بعقلانية، تدخن طوال الوقت، ولديها صوت عميق جدا. لقد كانت قوية". كانت جاكلين مخلصة بشكل لا يصدق ولديها نزعة عالية للرعاية والاهتمام بالآخرين.
أيضاً، كانت مادلون فيرستينن (لون) وغيلميت داينديلز (غيغي) في السابعة والعشرين من العمر عندما قُبض عليهما. كن من عائلات هولندية من الطبقة العليا. جئن إلى باريس للانضمام إلى الشبكة الهولندية، ولكن اعتقلن فور وصولهن. "كانت غيغي رياضية، وهادئة.
تشير غوين إلى رينيه ليبون شاتيناي (زينكا) بأنها "شجاعة بشكل لا يصدق". وصفت زينكا بأنها "دمية صغيرة"، وقيل إنها قصيرة مع شعر مجعد أشقر وفجوة بين أسنانها الأمامية. عملت هي وزوجها في شبكة ساعدت الطيارين البريطانيين على الفِرَار إلى إنجلترا.
قُبض على زينكا في سن ال 29 تقول غوين، وأنجبت طفلة في السجن أطلقت عليها اسم فرنسا. ولم يسمح لها بالاحتفاظ بطفلتها إلا لمدة 18 يوما قبل أن تؤخذ بعيداً ورُحّلت زينكا إلى ألمانيا. كانت تقول (زينكا) دائما أن عليها البقاء حيّة من أجل ابنتها.
هناك أيضا، إيفون لو غيلو (مينا). تصفها غوين بأنها فتاة من الطبقة العاملة "أحبت أن تكون واقعة في الحب". عملت مع الشبكات الهولندية في باريس وأحبت صبي هولندي في ذلك الوقت. وألقي القبض عليها وهي في الثانية والعشرين من عمرها.
وكانت أصغر التسعة خوسيفين بوردانافا (خوسيه)، التي كانت في العشرين من عمرها عندما اعتقلت في مرسيليا. كانت إسبانية، كما تقول غوين، وكان لديها أجمل صوت غنائي.
وتقول إن خوسيه كانت تغني للأطفال وتهدئهم بالغناء لهم.
وقد نقل التسعة جميعا إلى رافنسبروك، وهو معسكر اعتقال للنساء في شمال ألمانيا، ثم أرسلن للعمل في معسكر عمل في لايبزيغ لصنع الأسلحة. في هذا المكان حيث أقامن صداقة قوية.
كانت الظروف في المخيم مروعة. وقد تعرضن للجوع والتعذيب وتجريدهن من ملابسهن، وأجبرن على الوقوف فوق الثلج الجليدي لإجراء عمليات تفتيش.
نجون من خلال خلق شبكة من الصداقات. في المخيم كان هناك تقليد، كما تقول غوين، الذي ينطوي على نشر التضامن لمساعدة المحتاجين. كل فرد كان يستغني عن ملعقة من حسائه في وعاء، ثم يعطون الوعاء للمرأة التي كانت في أمسِ الحاجة إليه. كان الجوع مؤلما، لكن النساء وجدن وقتاً للتحدث عن الطعام وتبادل الوصفات واختراعها.
عندما سجّلت غوين رواية هيلين الكاملة لما حدث، قالت إن عمتها الكبرى أرادتها أن تعرف أنه على الرغم من أنهن كن سجينات، إلا أنهن كن جنديات، وعملن معاً على تخريب تصنيع القذائف من أجل سلاح يسمى بانزيرفاوست.
في أبريل 1945 كان الحلفاء قد قصفوا المصنع مرات عدّة. قرر النازيون إخلاء المخيم كما تقول غوين، مما أدى إلى خروج 5000 امرأة جائعة ومنهكة في ملابس رقيقة وأقدام متقرحة، شرقا عبر الريف الألماني.
تقول غوين إن النساء أدركن مدى خطورة هذه المسيرة. تقول غوين: "كن يعرفن حقاً أن لديهن خياراً واحدا، إما أن يهربن أو أن يقتلن أو يمتن جوعا. لذا وجدن لحظة عندما كان هناك نوع من الفوضى وقفزن إلى خندق وتظاهرن بأنهن كومة من الجثث بين جثث حقيقية. كان هناك الكثير من أكوام "الجثث" التي امتلك أصحابها الشجاعة أيضا، واستمرت المسيرة بدونهم.
وعلى مدى الأيام العشرة التالية، انطلقن للعثور على الجنود الأمريكيين على خط المواجهة. كن بحالة صحية سيئة، جاكي كان تعاني ضيق التنفس، زينكا كان مصابة السل، نيكول كانت تتعافى من الالتهاب الرئوي، كانت هيلين تعاني ألم ورك مزمن. كن يتضورن جوعا، لكنهن كن مصممات على إيجاد الحرية معا.
استغرق الأمر من غوين التي تستمع لحكاية عمتها وكتبت لاحقاً كتاباً عن هذه البطولة، الكثير من العمل والبحث وثلاث رِحْلات إلى ألمانيا لاكتشاف الطريق الدقيق الذي سلكته المجموعة الناجية. ما أصاب غوين بالذهول، بتتبع خطوات النساء، مدى التقدم الذي أحرزنه كل يوم
تقول غوين: "لم يمشين إلا لمسافة 5 أو 6 كيلومترات في بعض الأحيان. تقول غوين: "المفارقة هي أنهن يتضورن جوعا، لذا فهن بحاجة إلى الطعام ويحتجن إلى مكان للنوم بأمان، لذا كن بحاجة إلى الذَّهاب باتجاه القرى والتحدث إلى الناس، ولكن في كل مرة يذهبن فيها إلى قرية، كن في أخطر وقت بالنسبة لهن، يمكن أن يقعن فى فخ أو يقتلن على أيدي القرويين".
كانت هيلين ولون، كلتاهما تتحدثن الألمانية، ويتقدمن دائماً لطلب الإذن من رئيس القرية بالنوم في حظيرة، أو تجنيب أي طعام. تقول غوين: "لقد قررن قريباً جداً أن أفضل استراتيجية هي التصرف كما لو أنه لا يوجد شيء خاطئ في وجودهم حيث يكن، فقط للتظاهر بأن كل شيء على ما يرام وأنهن ليسن خائفات.
عندما يدركن أن الأميركيين على خط المواجهة هم في الجانب الآخر من نهر مولدي في ساكسونيا، ألمانيا، فإنها العقبة الأخيرة التي يجب عبورها. تقول غوين: "بالنسبة لي، كان أكثر الأمور تأثيراً هو الوقوف عند الجسر عند مولدي والنظر إلى النهر. وقالت إنها عثرت على معلومات عن النساء من أرشيفهن العسكري، ومن بعض الروايات المكتوبة الخاصة بالنساء عن هروبهن، ومن صانعي الأفلام الذين بحثوا في قصة لون، ومن خلال التحدث إلى أسر النساء.
وقد اكتشفت غوين أن عبور النهر كان من أكثر اللحظات المروعة للمجموعة في أثناء الهروب. بعد أن وصلت المجموعة إلى الجانب الآخر، كانت هناك لحظة مصيرية عندما خشيت بعض الفتيات في المجموعة من عدم تمكنهن من الاستمرار. كانت جاكي تكافح من أجل التنفس، لكن الفتيات كن مصممات ألّا يتخلين عن أحد. ثم جاءت سيارة جيب نحوهن وقفز جنديان أمريكيان، وعرضا عليهما الأمان وسيغارة.
اقرأ المزيد: تحديات أوروبا في 2021
تقول غوين خلال بحثها إنها اكتشفت مدى صعوبة عودتهن إلى الحياة الطبيعية بعد الحرب. "لقد ظهرن هزيلات ورهيبات، وكان هناك نوع من العار حول كونهن نساء كن في مخيم و... عانين الوحدة أيضا".
"كن قريبات جداً كمجموعة وفجأة تفرقن مع أشخاص لا يستطعن التحدث إليهم، أشخاص لا يريدون سماع شيء. لذا اعتقد أنهن كن معزولات نفسياً. اعتقد أن حالهن كاضطراب ما بعد الصدمة، ولكن لم يتم التعرف عليهن، لأنهن لم يُعدّين جنودا".
وتقول غوين باعتبارهن شابات، قيل لهن في كثير من الأحيان بعد الحرب أن يحافظن على سرية قصصهن، لذا لم يتم التعرف على بطولتهن.
تقول غوين: "من أصل 1038 كومباغنون دي لا ليبراسيون، وهي المجموعة التي اعتبرها [الرئيس شارل ديغول] قادة المقاومة، كانت هناك ست نساء، وأربع منهن قد توفين فعلا". "هذا مثير للضحك، لأن المقاومة ربما كانت على الأقل 50٪ من النساء. "
بعض النساء قررن الانقطاع عن الماضي تقول غوين والمضي قدما، لكن أخريات مثل غيغي ومنا بقين صديقات مدى الحياة وكن عرابات لأطفال بعضهن البعض.
تقول غوين: "اجتمعت النساء في وقت متأخر جداً مرة أخرى، في الوقت الذي أخبرتني فيه عمتي بالقصة، كان لديهم عدة مرات للم شمل المجموعة الناجية.
أما طفلة زينكا؟!
تقول (غوين) أنها بحثت عنها لحوالي ثلاث سنوات. تقول غوين: "بالصدفة الغريبة، وجدتها فعلا، وعندما ذهبت لرؤيتها كانت تعيش في مكان ليس بعيداً عن المكان الذي أعيش فيه في جَنُوب فرنسا. قالت: "تخيلي بعد 70 عاما أن أعرف كل هذا عن أمي".
لُمّ شمل فرنسا مع والدتها بعد الحرب، ولكن زينكا كانت مريضة جدا واضطرت إلى إجراء عمليات جراحية متعددة بسبب السل الذي أصيبت به في المخيم. كانت زينكا في بعض الأحيان أضعف من أن تعتني بابنتها عندما كانت تكبر، كما تقول غوين، وغالبا ما كانت ترسل للعيش مع أفراد آخرين من العائلة.
اقرأ المزيد: الهند وألمانيا تسجلان معدل إصابات عالي بكورونا.. فرنسا تقلص العزل
توفيت زينكا في عام 1978، ولكن فرنسا لم تكن تعرف عن قصة هروب والدتها. وتوفيت العمة الكبرى هيلين في عام 2012. قرب نهاية حياتها كانت هناك لحظات عندما كان من الواضح أنها ما تزال مسكونة بالماضي. تقول غوين.
تقول غوين: "تتحمل النساء وطأة الحروب بطرق غير معترف بها وعميقة، وأريد أن يتم الاعتراف بذلك. ومع ذلك، تريد غوين أيضاً الاعتراف بــ "أعمال اللطف والكرم المدهشة" أيضا. "كل هذه التفاصيل الصغيرة والجميلة جداً التي أمسكوا من خلالها ببعضهم البعض، واعتقد أنه ينبغي الاحتفاء بها أيضا."
ليفانت نيوز _ ترجمات _ BBC
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!