الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • تطويع الإعلام لكسر القيود الاجتماعية .. حملة ”ما رح اسكت” نموذجاً

تطويع الإعلام لكسر القيود الاجتماعية .. حملة ”ما رح اسكت” نموذجاً
تحقيق: نور مارتيني

نور مارتيني


 


لطالما كانت المرأة هي الحلقة الأضعف في المجتمعات الشرقية، التي تحكمها عقليّات ذكورية، تنظر إليها على أنها ضمن الممتلكات الخاصة، ساعد على ذلك تشريعات قانونية، هي في الأغلب مستقاة من قوانين عفا الدهر عنها، ولكن حالة الرّكون إلى التبعية المطلقة، جعلت من المشرّع عاجزاً على استنباط قوانين تتماشى والحركة الطبيعية للحياة، فالقوانين التي وضعت في ستينيات القرن الماضي لم تعد تصلح لمجتمعات العقد الثالث من القرن العشرين!


من هذا المنطلق، تبرز ضرورة رفع سوية الوعي المجتمعي لدى النساء، أياً كانت سوية التعليم التي حصلن عليها، لكي يكنّ قادراتٍ على تحدّي جميع الظروف التي قد تواجههنّ في مسيرتهنّ الحياتية، وهو ما أثبتته السنوات التسع المنصرمة منذ اندلاع الثورة السورية، حيث وجدت الكثيرات من النسوة أنفسهنّ مضطراتٍ للبحث عن مصادر دخل، أو الاحتماء برجلّ يساعدهنّ على أعباء الحياة، بعد أن فقدن السند والمعيل؛ كثيرٌ من هذه الزيجات لم تكن مبنية على التكافؤ أو الانسجام أو حتى القناعة التامة، ولكنّها كانت قائمة على استغلال حاجات النساء في هذه الظروف الاستثنائية، من ناحية أولى، أما الطرف الآخر فقد كان في الغالب يستغلّ غياب سلطة القانون في العديد من المناطق، لإتمام “صفقات زواج” لم تكن عادلة على الإطلاق.


لقد وعى اللوبي النسوي السوري أهمية هذه المعطيات، وحاول تسليط الضوء بطرقٍ شتى، على الجانب الأهم من القضية، وهو كون المرأة الشرقية عموماً مسلوبة الإرادة، ومع الظروف الاستثنائية الحالية، بات الموضوع أشدّ تعقيداً وسوءاً، نتيجة القمع المضاعف الذي فرضته ظروف البلد اللا إنسانية، والتي جعلت حقوق المرأة السورية تتراجع بدرجات قياسية.


كلّ هذه المعطيات دفعت اللوبي النسوي السوري إلى إطلاق حملة توعوية تحمل عنوان “ما رح اسكت”، وتهدف الحملة إلى تحفيز النساء على مناهضة العنف والاستلاب في مجتمعاتهنّ المحدودة، بغية الوصول إلى نتائج تراكمية تؤدّي إلى تحقيق العدالة للمرأة بشكل مطلق، وتساهم في إشراكها بالعملية السياسية مستقبلاً، بالارتكاز إلى أسس صحية.


“مارح اسكت!”..بماذا يجب أن تبوح النساء؟


فيما يتعلّق بفعاليات الحملة، تقول منسّقة العلاقات العامة في اللوبي النسوي السوري، ريما فليحان: “الهدف من هذا النوع من الحملات ليس آنياً، ولا يمكن الوصول إلى نتائج فورية، بل إنّ النتائج هي عملية تراكمية، ولذلك لم نربط الحملة بظرف معيّن، وليست رهناً بمرحلة معينة، لأنّ الضوء ينبغي أن يبقى مسلَّطاً على قضايا العنف المُمارس ضدّ المرأة على الدوام”.


وحول السبب الذي يقف وراء الحملة، اعتبرت منسقة العلاقات العامة في اللوبي النسوي السوري، أنّ “العنف المُمارس على النساء في مجتمعاتنا متعدّد المصادر، فبعض النساء يتعرّضن للعنف من قبل المجتمع، وأخريات يُمارس عليهنّ القانون نوعاً آخر من العنف، فالتمييز أمام القضاء يعدّ شكلاً من أشكال العنف، ولهذا كان ينبغي توعية المرأة بأبسط حقوقها، لكي نصل إلى مرحلة نتمكّن خلالها من تعديل التشريعات المرتبطة بالمرأة والمجتمع، بعد أن تعي المرأة ذاتها أهمية هذه الخطوة”.


لتوضيح المفاهيم المغلوطة حول العنف المجتمعي، والفئة المُستَهدَفة من الحملة اعتبرت فليحان أنّ “الشريحة المُستَهدَفة من الحملة هي المجتمع السوري نساء ورجال، وسواء كانوا في داخل سوريا أو خارجها، فالمرأة تتعرّض للعنف أينما كانت مع اختلاف وسائل الدعم المتاحة طبعاً، وهو جزء مما ستقوم الحملة بالتطرّق اليه” مشيرةً إلى أنه “حين نتحدّث عن العنف فنحن نعني كل أشكاله سواء كان جسدياً أو نفسياً أو جنسياً أو اقتصادياً أو قانونياً. وأيضاً نتحدّث عن استخدام النساء كوسائل حرب واستهدافهنّ بالاعتقال، وما قد يتبعه من تعذيب واغتصاب، وخطف النساء أو حجز حريّتهنّ، والاتجار بهنّ. نحن نقول لا للعنف.. كلّ العنف مهما كان مصدره وأيّاً كان مُرتَكِبه”.


الصحفية والكاتبة سوزان خواتمي، إحدى عضوات اللوبي النسوي السوري، تقول: “جميعنا يعرف أنّ ثقافة المجتمعات وطبيعتها والقوانين الناظمة لحقوق المرأة تختلف من مكان إلى آخر، وبالتالي فإنّ الخطاب الموجّه إلى السيدة السورية في بلد أوروبي يختلف عنه في الداخل السوري”، وأوضحت خواتمي: “ولكننا وقبل أن نضع تصوّراً لتشريع القوانين الداعمة ووضع آليات النجاح في تطبيقها -وهو أملٌ نرجو أن يتحقّق في سوريا المستقبل- نحتاج إلى تهيئة المناخ العام ونشر الوعي في الحدود المطلوبة، وعلى كلّ المستويات، للتأسيس عليها لاحقاً، سواء في توضيح مفهوم مستويات العنف جسدياً كان أو نفسياً، وإيضاح صور القَسر والحرمان المُمارَسة من قبل الأسرة والمجتمع والدولة. وبالتالي فإنّ الحملة ضمن مراحلها الخمس، تؤسّس لطرح مفاهيم أولية لمشاركة المرأة؛ المشاركة في صنع خيارات تصبّ في مصلحة المجتمع، وتهيئ لصوتٍ واعٍ (لا يسكت) ضمن الدائرة الصغيرة لكل امرأة في حياتها الخاصة والشخصية”.


“تكريس ثقافة التمييز”.. نوعٌ من العنف الذي تجب مناهضته


ترى خواتمي أنّه هناك أكثر من مجال علينا العمل عليه سواء “فيما يتعلّق بالشق القانوني الحقوقي أو المناهج المدرسية التعليمية أو وسائل الإعلام”، معتبرةً أنها “جهود مشتركة تسير بالتوازي للقضاء على أشكال العنف ضدّ المرأة، والتي تعتبر من أشدّ أنواع الانتهاكات لحقوق الانسان، وأكثرها انتشاراً. وكذلك الوصول إلى ما ننشده من حالة المساواة في الحقوق والواجبات؛ من أجل حالة تشاركية سويّة في المجتمع”.


فيما اعتبرت ريما فليحان أنّ “المجتمعات العربية على وجه الخصوص، والشرقية عموماً، تُمارس التمييز في كل شيء، فقانون الجنسية وحرمان المرأة من منح الجنسية السورية لأبنائها، هو نوع من التمييز. حتى المعاملات القانونية والأمور المرتبطة بحقوق المرأة، هي نوع من العنف الموجّه ضدّ المرأة.. (ما رح اسكت) بدأت من أبسط الحقوق، وهي مستمرّة ما استمرت الحاجة إلى توعية المرأة بحقوقها”. ولفتت فليحان إلى أنّ “التابوهات المجتمعية تقيّد النساء عادةً، ولكننا لمسنا رغبة حقيقية في التغيير، خصوصاً في البيئات التي تخضع لقوانين اجتماعية صارمة، وفي البيئات المُحافِظة، وهو ما يدفعنا إلى رفع أصواتنا بصخبٍ أكبر، لأنّ هؤلاء النسوة وَعَيْنَ نوع التمييز المُمارس عليهنّ وبدأن بمواجهته بالفعل”.


الإعلام هو المشكلة والحل


في معرض حديثها عن دور الإعلام، وصفت الصحفية والكاتبة السورية سوزان خواتمي هذا الدور بالقول أنّ “الإعلام المرئي والمسموع والمطبوع في بعض نماذجه الأوضح لا يقدّم صورةً إيجابية للمرأة؛ بل على العكس هو يرسّخ الصور النمطية أو المكرّسة للعنف، كما رأينا في حلقات مسلسل باب الحارة، ويختصر دورها ضمن مجال الطبخ والتجميل والأزياء، ويعرِضها كرمز جاذب وترويجي في الإعلانات والبرامج السطحية الترفيهية. وهو أمر مؤسف؛ لأنّ الإعلام في صورته المُثلى الهادفة هو الوسيلة التنويرية الأقدر على تقديم تصوّرات ذهنية جديدة مؤثّرة على مستوى المواقف والتفكير”. كما أشارت خواتمي إلى وجود “ضرورة حتمية لتعزيز الوعي الثقافي والاجتماعي من خلاله، وتقديم نماذج للإبداعات النسائية في التخصّصات العلمية الأكاديمية، وعرض برامج حوارية ونقاشية؛ تُخاطب الدور التنموي للمرأة. إضافةً إلى الانتباه إلى محتوى الأعمال الفنية المعروضة على الشاشة“.


لينا. س، إحدى النساء المُقيمات في معرتمصرين، التابعة لمحافظة إدلب، قالت من ناحيتها “كإمرأة متعلّمة في إدلب، يحزّ في نفسي ما آل إليه حالنا، كثيرات من زميلاتي المتعلّمات أُجبِرنَ على تزويج بناتهنّ بطريقة لم يكنّ راضياتٍ عنها، تحت ضغط من المجتمع، خاصةً أولئك اللواتي تُوفّي أزواجهن، فكنّ واقعاتٍ تحت سيطرة العم أو الجد، وحتى أبنائهنّ الذكور في بعض الأحيان”. وتتابع لينا: “نعم هنالك ضرورة ملحّة لمثل هذه الحملات، لأنّ حقوق المرأة تُنتَهك كلّ ثانية في سوريا كلّها وليس في منطقتنا وحدها، حتى النساء السوريات اللواتي وصلن إلى أوروبا ما زالت توجد بينهنّ في كثيرٍ من الأحيان، نساءٌ خاضعات إلى القيود العائلية، التي تقف في وجه طموحاتهنّ”.


تكييف الحملة وفق إمكانيات الفئة المستهدفة


تتوجّه الحملة في خطابها إلى النساء السوريّات عامةً، ولكن الفئة الأحوج لمثل هذه الحملات هي تلك التي ما زالت في سوريا، واللواتي يعانين من سلطات الأمر الواقع في كلّ المناطق السورية. وحول الوسائل التي اتبعها القائمون على الحملة تقول ريما فليحان: “حاولنا التواصل مع شركاء إعلاميين، حيث لقيت الحملة صدىً طيّباً لدى العديد من الشركاء، الذين أبدوا استعدادهم لوضع الإمكانات المُتاحة لديهم في خدمة الحملة”. وأوضحت فليحان “لقد قُمنا بتلافي المشكلات المتعلّقة بصعوبة الوصول إلى النساء في الداخل السوري، من خلال التنسيق مع بعض الإذاعات المنتشرة في الداخل، والتي هي أساساً تتقاطع مع برنامج الحملة، حيث أننا نُدرك محدودية إمكانات النساء في الداخل، ولهذا حاولنا تطويع إمكاناتنا لتتلاءم مع ما هو متاح، بغية الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة”.


من جهتها؛ أكّدت الكاتبة والصحفية سوزان خواتمي على أنّه “عند تقديم دراسة لأيّة مشروع، هناك نسب مختلفة تحقّقها للنجاح؛ تبعاً للشرائح المُستَهدَفة -وهي كثيرة ومتعدّدة في الوضع السوري- لهذا جاءت فكرة الحملة بصورتها الإلكترونية، باعتبارها الوسيلة الأفضل لاختراق الداخل، فما من طريقة بديلة لنشر الأفكار إلا عبر تكنولوجيا الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي المُتَاحة عند الشريحة الأكبر من الناس، أيّاً كان مكان تواجدهم”. وتابعت خواتمي: “وعلى مستوىً آخر، تعمل عضوات اللوبي، عبر ارتباطهنّ مع المنظمات الحقوقية والانسانية، لدعم قضية المرأة وإيقاف كلّ أشكال العنف المُمارس عليها، والعمل على وضع قوانين تحدّ من الممارسات المُجحِفة والظالمة للمرأة، مع سلسلة من الاجراءات الداعمة كالصحة النفسية والاجتماعية والتشبيك مع منظمات المجتمع المدني”.


أما لينا، التي تقيم في إدلب، فتقول: “نشهد في إدلب حملات مشابهة، ولكننا لا نشعر بأنها على قدر من الأهمية، فالحدود المرسومة لتحرّكاتنا تجعلنا شديدات الحذر، وتبقى الإذاعات التي تبثُّ من خارج هذا النطاق المُغلَق، هي الوسيلة الأكثر أماناً بالنسبة لنا”. وتضيف: “الاحتياجات أكبر من حملة واحدة، فكلّ الحملات ضدّ زواج القاصرات لم تنجح في حلّ المشكلة، ولكن لدي أمل أن تستمرّ هذه الحملات، كي تنقذ حفيداتنا وبناتنا من المصير الذي قادت الظروف الحالية، ومستوى الوعي المحدود بالحقوق، الكثير من النساء إليه”.


وتعلّق لينا، 42 عاماً، والتي درست في قسم الفلسفة “صديقتي المتعلّمة، وابنة المجتمع المتنوّر، كانت ضحية المجتمع الذي دفعها للزواج من شخص أرمل، لتتخلّص من الصفات المقيتة والتعنيف اللفظي من مجتمعها المحيط. فكانت النتيجة زواجاً دام ستة أشهر، مُورِسَ عليها خلاله الضرب والإهانة؛ فتعرّضت للعنف الزوجي. ومن بعدها عادت لدائرة العنف اللفظي من قبل المجتمع مرة أخرى.. لو أنها لم تسكت منذ البداية، لما تعرّضت لكلّ هذا الظلم!”.


مارح اسكت! حملة قد تنجح في تحريك مياه الأذهان الراهدة، وتضع النساء على بداية الطريق نحو مجتمع أفضل.


قد يستغرق الأمر سنوات ولكن النتائج لا يمكن حصادها قبل زوال العوامل المسبّبة لها، فدائرة العنف في المجتمع تتسع، نتيجة غياب دور القانون، ما يجعل الكلّ خاضعاً لسلطة الأقوى، ومن هنا تصبح النساء والأطفال الحلقة الأضعف.


هذا النوع من الحملات يزوّد النساء بالمعطيات اللازمة للخروج من دائرة العنف هذه، وحماية أطفال الغد من أن يكونوا ضحايا في الأيام القادمة.

العلامات

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!