-
الهويّة السورية المسحوقة في عفرين
رغم إسقاط مختلف وسائل الإعلام السوري البديل، الضوء على الجرائم والانتهاكات في عفرين، والمخططات الكارثية تجاه المدنيين من تطهير وتغيير ديمغرافي وتشفٍّ على الهويّة، وشمول الكرد والعرب بالمقتلة على يد "شلة الزعران" من الفصائل المسلحة، لكن قضية الهويّات ما تزال تحتاج للمزيد من الاهتمام والبحث.
الفصائل المسلحة جاءت بتعريف مُخزٍ للهويّة
التعريف الضيق للهويّة يقوم على الانتماء للغة الأكثرية والوطن والدين فقط. لكن الأوسع والأكثر رواجاً في ظل العولمة وفشل سياسات الصهر والإلغاء، إنها تتحقق بانتماءات أخرى ايضاً مثل المجموعات العرقية واللغوية والقومية، إضافة للانتماء إلى جهة سياسية أو عائلة كبيرة، أو جماعة بشرية يشتركون في الاهتمامات ويتقاسمون التوجهات المشتركة. وصحيح أن هذه الانتماءات لا تحظى، بطبيعة الحال، بالدرجة نفسها من الأهمّية والقدر لدى الجميع، لكن لا يُمكن لجهة ما أن تفضل وتحدد خيّارات الانتماء للآخرين، أو القول الجازم إن إحدى هذه الاهتمامات سخيف وسطحي وفاقد للأهمية، مقابل أخرى أكثر أهمية، فكلها تمثل العناصر المكوِنة للشخصية الهويّاتية. فلا سلّم ثابت أو تفاضل بين درجات بناء الهويّة، تكون بعض عناصرها ذات تأثير أقوى وأكبر من باقي الانتماءات. هذا الدمج بين الهويّة الشخصية/ الفردية والهويّة الجماعية يقودنا للقول إن الهويّة اثنتان، الهويّة الشخصية وهي مجموعة العناصر التي تخص فرد دون غيره مثل الأسم، مكان وتاريخ الولادة، اللقب، اسم العائلة، وأشياء خاصة به مثل التوقيع والبصمة والصفات الجسدية والأذواق، والرغبات الخاصة والميول نحو شيءً ما أكثر من غيرها، والهوية الجماعية: وهو ما تتقاسمه المجموعات البشرية فيما بينها أولاً، ومع غيرها من المجموعات ثانياً كالدين واللغة والوطن والقيم الفكرية والفلسفية والثقافية المشتركة. وهذا التوجه صوب التوسعة في مفهوم الهويّة يقود المجتمعات صوب الشعور العارم بالعمل الجماعي والتضامن والتكتل في سبيل العام، بدلاً من استباحة الدماء، وتحويل الآخرين إلى فاقدي الألوان والعواطف. وهو ما قامت به تلك الفصائل، فهي تحدد مفهوم الانتماء السوري الهويّاتي وفق درجة الرضوخ والقبول لسياسات "الأرض المحروقة".
هويّة جديدة في عفرين ليست سورية ولا جامعة
اللوحة المختصرة في عفرين، منع التعبير عن الانتماءات أو نمط الحياة بحرية، وأيُّ مخالفة لذلك النهج الممارس بتخطيط وتصميم، يكون التوتر والعنف والقتل من تداعياته، وهو ما يشمل العرب والكرد معاً؛ لأن تلك الفصائل ليست سوى قطعان من المجرمين وحثالات خارج التاريخ. هذه الجرائم خلقت لدى المجتمع الكردي في عفرين وخارجها قناعة إن تلك الجرائم تقوم على ثلاث مُحددات، أولها: لا هويّة وطنية أو سياسية مُحترمة لهم، بل هي هويّة السلب العام والنهب الخاص والإجرام الجماعي، ثانيها: إن سوريا كُلها فاقدة للهويّة المستقرة، وكنتيجة لتراكم الظلم التاريخي، وخصوصية المجتمع الكردي الفاقد لأيّ حقوق، فإن الانطباع العام يقول إن جرائم بحقهم هو نتيجة تمايزهم عن لغة وقومية تلك الفصائل، كما أن الجرائم بحق الكرد الإيذيديين تأخذ منحى الاختلاف الديني، وتالياً تحول التنوع والتعدد إلى كارثة ومقصلة. ومن هنا يُمكن فهم طبيعة وتركيبة الهويّة السورية القادمة، طالما أن لا أحد يُمكنه ردع ممارسات تلك الفصائل.
هل تخيل أحدنا نفسه من عفرين؟
مع سيولة الخطابات والسرديات التي كانت تلوكها الفصائل المسلحة حول الحريات والديمقراطية والعهد الجديد، وجد أهالي عفرين أنفسهم أمام واقعٍ جديد، قوامه قتل الهويّات، وسحق الحريات، ومنع كل مظاهر التمدن، لسان حال تلك الفصائل: لن نعود إلى ديارنا من جديد، ها نحن نستقر في واحدة من أجمل المناطق السورية، ننهب منها ما نشاء، ونقتل من نرغب ومتى وأين نرغب، نتلاعب بأرزاق الناس وحيواتهم وقوت أبنائهم، نُعيد عقارب الساعة إلى أسوء حُقب التاريخ حيث قوانين الغاب، والغلبة للأقوى.
بالمقابل لو طُرح على الكرد في المهجر سؤالٌ محدد، هل أنت سوري أم كردي، أو هل أنت سوري أم ألماني، هل يجب القول هذا وذاك، انطلاقاً من التوازن والعدل مابين الهويّة القومية والوطنية، أو ما بين الانتماء الوطني السوري، والانتماء إلى حيث الحماية وضمان المستقبل. لعل أيَّ جوابٍ غير جامع سيكون كاذباً؛ فالمهاجر من عفرين خلال الخمس سنوات الأخيرة، والمستقر في أوربا يحمل ثلاث لغات، الكردية والعربية ولغة المهجر، وهو يقف على مفترق الطرق بين ثلاث انتماءات ومجموعة من التقاليد الثقافية والمجتمعية، حيث لا تجرد من هويّته القومية الكردية، وليس على استعداد لنسيان فضل البلد الجديد-المهجر- ومساحات الحياة والامان المفقود حيث مسقط راسه، وإن كانت هذه ما تشرح هويّته، لكن لا هويّة دون ذاكرة جمعية، ولا تنشئة لهويّة الأجيال اللاحقة دون سرديات الآباء عن ذكرياتهم وقصصهم الإنسانية والتي تُشكل رواسب تأسيسية للهويّة الحالية والمستقبلية، بل إن درجة منسوب الأذى والضغط، وتأثيرها في خلق الكراهية/ المحبة تجاه الآخر المختلف والتي تتأسس وفق سلوكياته، هي التي تحمل الهويات نحو التقوقع أو الانفتاح، ووفقاً لذلك كيف سيُقدم أهالي عفرين، هويّتهم السورية لأبنائهم وأبناء المجتمع المحلي في دولة اللجوء؟
الفصائل شوهت تاريخ السوريين
السياق التاريخي والسياسي والعسكري الذي جاء بتلك الفصائل إلى عفرين وباقي مناطق شمال غرب سوريا، في عمقه قام على عمليات عسكرية منها ما كانت ضد الإدارة الذاتية وقواتها العسكرية، والتي انتهت كما قالت تلك الفصائل "بالانتصار" في عملية "غصن الزيتون" لكنها لم تحدد طبيعة الانتصار، ولا الجهة المنتصرة عليها بدقة، خاصة وإن لسان حال السوريين، عرباً وكرداً، إنهم -الفصائل- انتصروا على الهويّة السورية، والدين المعتدل، والعيش المشترك، والإنسانية والتعددية اللغوية والثقافية، وهي الكلمات المفتاحية لفوزهم المشّوه. ففي الوقت الذي شهدت فيه سوريا تحوّلات سياسية وثقافية عميقة في بنيتها منذ نهايات 2011، وكان المأمول من الوعي الجديد وإفرازاته من حركات سياسية وشبابية، وصراع بين السلطة والمعارضة، وبروز العديد من المراكز البحثية والإعلامية البديلة، هو تفكيك منظومة القيم القاتلة، وأفول نجم أحادية الهويّة وزوال مهزلة عقدة التفوق لشريحة ثقافية على حساب الآخرين، والأهم تغيير المضامين مع العناوين، وتحقيق العدالة واستعادة الهويّات الفرعية لمكانتها ودورها في البناء. نجد أن موضوع الهويّات تحديداً، يتحكم به مجموعة منفلتة وخارجة عن أي قانون سماوي أو وضعي، لا تحمل من الهموم سوى كمية السلب، ولا تعرف من أساسيات بناء الدولة إلا القتل العمد، ولا تفهم من التعددية سوى الإلغاء والسحق. وتالياً أفرز مفهوماً لهويّة مضطربة وخطيرة ومدمِّرة تقودنا جميعاً لحتفٍ كارثي. ولا حرج بعد ذلك أن تحولت ردات فعل أهالي عفرين إلى الغلوّ والعنف. وخطورة الوضع في عفرين قائم على عدة نواحٍ، هويّـها الكردية ذي الوضع الخاص في سوريا، وغياب أيّ مشروع وطني جامع، ونسف للعيش المشترك، ولا مشاريع لإدارة الاختلاف على طول البلاد وعرضها من بينها عفرين، قمع الثقافة واللغة الكردية، إضافة لكل ما تقدم، فإن عفرين احتضنت مئات الآلاف من السوريين الفارين من الحرب، ولم تشهد المدينة أيّ ردات أفعال من المجتمع المحلي على تواجدهم أو عنصرية تجاههم. هذه الانتماءات المُختلِفَة للهويّة الكردية في عفرين اختلطت مع هويّة النازحين، وشكلت بذرة هويّة سورية جامعة، وإن بدرجاتها الدنية، لكنها كانت مزيجاً من الألوان والأذواق والخواطر والأفكار واللغات والانتماءات والهواجس، وكلها كانت مستقرة ولو مؤقتاً وذات توجه سلمي، ومنحت السوريين نكهة خاصة، حتى جاءت تلك الفصائل وشوهت سورية قبل أي شيء.
المسؤولية الأخلاقية على الجميع، أولها الحكومة السورية المؤقتة، تحتم عليهم إما التبني الواضح والصريح لتلك الفصائل، وتالياً هي شريكة في كل الأفعال، أو التبرئة منها وهو ما يحتم عليها القيام بالفعل المناسب وإخراجهم من المناطق المدنية وتقديم الجناة للعقاب والعدالة.
ليفانت - شفان إبراهيم
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!