الوضع المظلم
الخميس ٢٦ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • النوادي السياسية والتجمعات المدنية: أمل سوريا في البناء والتغيير

النوادي السياسية والتجمعات المدنية: أمل سوريا في البناء والتغيير
شيار خليل

في سوريا، التي عانت لعقود طويلة من القمع السياسي والاستبداد، تبدو الحاجة إلى فضاءات مدنية سياسية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، فهذه الفضاءات ليست مجرد أماكن للتجمع أو النقاش، بل هي أدوات أساسية لإعادة تشكيل وعي المجتمع، وبناء أطر ديمقراطية تساهم في صياغة مستقبل البلاد، إن النوادي السياسية والتجمعات المدنية تمثل منصات للتعبير عن الرأي وتعزيز الحوار المجتمعي، وهي الضامن الحقيقي لتحقيق التغيير الذي ينشده السوريون منذ اندلاع الثورة، ولكن في ظل الظروف الراهنة والتحديات المتراكمة، كيف يمكن لهذه المساحات أن تكون حلاً عمليًا لإعادة بناء سوريا؟ وكيف يمكن للجهات الدولية أن تدرك قيمتها وتدعمها كجزء من العملية الانتقالية؟

لعقود طويلة، مارس النظام السوري سياسات القمع الممنهج تجاه أي نشاط مدني أو سياسي مستقل، أدى هذا القمع إلى تغييب شبه كامل للمجتمع المدني كفاعل مؤثر في الحياة السياسية، وتحولت السياسة إلى احتكار تام من قبل النظام وأجهزته الأمنية، ومع اندلاع الثورة السورية، خرج السوريون مطالبين بالتغيير، ولكن غياب الخبرة في العمل السياسي والتنظيم المدني حال دون بناء بدائل متماسكة للسلطة القائمة، هنا تبرز أهمية النوادي السياسية والتجمعات المدنية كأدوات لتعويض هذا النقص وبناء قدرات مجتمعية قادرة على قيادة المرحلة المقبلة، هذه المساحات ليست رفاهية أو ترفاً فكرياً، بل هي ضرورة لبناء وعي سياسي يرسخ قيم التعددية والديمقراطية، ويمكّن المواطنين من فهم حقوقهم والمطالبة بها.

لعل تجربة نادي “جمال الأتاسي” في سوريا واحدة من أبرز الأمثلة على النوادي السياسية التي سعت لإحداث تغيير سلمي في البلاد، لكنها واجهت قمع النظام، كان النادي في بداية تأسيسه منصة للنقاش السياسي، يجتمع فيه المثقفون والناشطون من مختلف التيارات لمناقشة القضايا الوطنية الكبرى وطموحات الشعب السوري نحو الديمقراطية، رغم أن أنشطة النادي كانت سلمية بالكامل وتركز على الحوار الفكري، إلا أن النظام لم يتحمل وجود صوت مستقل ينادي بالإصلاح، بدأ النظام بمضايقة أعضائه وإغلاق مقر النادي، وانتهى الأمر باعتقال العديد من الناشطين البارزين فيه، وكان مصير نادي جمال الأتاسي دليلاً واضحاً على أن النظام السوري لم يكن يسمح بأي مساحة سياسية أو مدنية خارج نطاق سيطرته.

النوادي السياسية يمكن أن تكون بمثابة مختبرات ديمقراطية صغيرة يتعلم فيها الأفراد مهارات الحوار، التفاوض، والتخطيط الجماعي، هذه المهارات ليست مجرد أدوات نظرية، بل هي حجر الأساس لبناء نظام ديمقراطي حقيقي، في سوريا اليوم، حيث تغيب الثقافة الديمقراطية بفعل عقود من الاستبداد، يمكن لهذه النوادي أن تكون نقطة انطلاق لإعادة بناء هذه الثقافة من القاعدة إلى القمة. كما أن هذه الفضاءات توفر منصة للتفاعل بين مختلف مكونات المجتمع السوري، مما يعزز الوحدة الوطنية ويحد من الانقسامات الطائفية والإثنية التي غذتها الحرب.

لا تقتصر أهمية هذه المساحات على الداخل السوري فقط، بل تمتد إلى كونها جسراً للتواصل مع الجهات الدولية، في الوقت الذي تبحث فيه القوى الدولية عن سبل لدعم سوريا في مرحلتها الانتقالية، يمكن لهذه النوادي أن تكون شريكاً محلياً فعالاً يعبّر عن تطلعات الشعب ويوفر رؤى واقعية تستند إلى احتياجاته الحقيقية، إن دعم هذه الفضاءات يعني بناء مجتمع مدني قوي قادر على مراقبة عمل الحكومة الانتقالية ومساءلتها، مما يضمن أن تكون عملية الانتقال الديمقراطي ذات مصداقية وشاملة.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل التحديات التي تواجه إنشاء هذه المساحات في سوريا، الخوف المتجذر من القمع والانتقام يجعل العديد من السوريين مترددين في الانخراط في أنشطة مدنية أو سياسية، بالإضافة إلى ذلك، يعاني المجتمع السوري من تشرذم سياسي وانقسامات عميقة تجعل من الصعب توحيد الجهود نحو أهداف مشتركة. نقص التمويل يمثل عائقاً كبيراً أيضاً، حيث تحتاج هذه المبادرات إلى موارد مستدامة لضمان استمراريتها وفعاليتها، كما أن غياب البنية التحتية الأساسية في العديد من المناطق السورية يزيد من تعقيد المهمة.

لكن هذه التحديات ليست مستحيلة الحل، إذا ما تم تبني نهج شامل يتضمن تعاوناً بين المجتمع المدني المحلي والجهات الدولية، يمكن التغلب على العديد من هذه العقبات، يمكن للجهات الدولية أن تلعب دوراً محورياً في دعم هذه المساحات من خلال تقديم التمويل اللازم لتنفيذ برامج تدريبية تهدف إلى بناء القدرات السياسية للمواطنين، كما يمكنها دعم المنظمات المحلية التي تمتلك الخبرة والمعرفة بالسياق السوري، لضمان أن تكون هذه الفضاءات متجذرة في الواقع المحلي وليست مجرد مشاريع مستوردة.

علاوة على ذلك، يجب على الجهات الدولية أن تعترف بأهمية هذه المساحات كأدوات للمشاركة في الحكومة الانتقالية القادمة، فبدلاً من الاعتماد فقط على النخب السياسية التقليدية أو الإيديولوجية، يمكن لهذه الفضاءات أن توفر قناة للتواصل مع القاعدة الشعبية، مما يمنح العملية الانتقالية طابعاً أكثر شمولية وشرعية وبمشاركة كل الوطنيين/ات السوريين، النوادي السياسية يمكن أن تكون أيضاً منصات لطرح ومناقشة القضايا الجوهرية مثل صياغة الدستور، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وضمان حقوق الإنسان، هذه القضايا لا يمكن معالجتها بشكل فعال دون مشاركة مجتمعية واسعة، وهو ما توفره هذه الفضاءات.

من الضروري أيضاً أن تكون هذه الفضاءات شاملة وممثلة لجميع مكونات المجتمع السوري، مشاركة النساء والشباب في هذه المساحات ليست خياراً، بل هي شرط أساسي لنجاحها، فيشكل النساء والشباب طرفاً مهماً كما يمثلون شريحة كبيرة من المجتمع السوري، وتجاهل أصواتهم يعني استمرار الإقصاء الذي كان جزءاً من الأزمة السورية، يجب أن تكون هذه المساحات فرصة لإعادة تعريف أدوارهم في المجتمع وتمكينهم من لعب دور فاعل في صياغة مستقبل سوريا.

في نهاية المطاف، تُعد النوادي السياسية والتجمعات المدنية نقطة الانطلاق نحو بناء سوريا جديدة، سوريا تحتاج إلى فضاءات تعيد للمجتمع دوره في القيادة وصياغة مستقبله، هذه المساحات ليست بديلاً عن العملية السياسية الرسمية، لكنها جزء لا يتجزأ منها. هي تهيئ الأرضية لبناء مجتمع ديمقراطي قادر على تجاوز مخلفات الحرب والاستبداد، وتمهد الطريق نحو دولة تضع المواطن في صلب أولوياتها، الجهات الدولية، من جانبها، يجب أن تدرك أهمية هذه الفضاءات وأن تجعل دعمها جزءاً من استراتيجيتها لدعم سوريا في مرحلتها الانتقالية.

إن بناء سوريا المستقبل يتطلب أكثر من مجرد تغيير في النظام السياسي، يتطلب تغييراً جذرياً في طريقة التفكير والعمل السياسي، وهذا لن يتحقق دون تعزيز الوعي المجتمعي وتوفير مساحات للمشاركة الفاعلة، إن النوادي السياسية والتجمعات المدنية ليست فقط ضرورة، بل هي أمل سوريا في البناء والتغيير، سوريا الجديدة تحتاج إلى مواطنين واعين، وقادة متجذرين في مجتمعهم، ومؤسسات تضع الإنسان فوق كل اعتبار، هذه المساحات هي البداية، وهي الطريق نحو تحقيق ذلك.

ليفانت: شيار خليل 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!