الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الحلمُ العثمانيّ وقنصُ الثّورةِ السورية
عبير نصر

بعد 2011 أمعن النظامُ التركي في التلاعبِ بنسيجِ المناطق السورية التي وقعت تحت احتلاله، ساعياً إلى تغيير بنيتها الديمغرافية، وإعادة هندستها سياسياً واجتماعياً بغية تحقيق مكاسب جيوسياسية، تمكّنه من قلب موازين القوى، وتغيير المعادلات الإقليمية بما يخدم طموحاته التوسعية.


هو الذي لم يتوانَ عن انتهاك المواثيق والقرارات الدولية القاضية باحترام سيادة الدول على أراضيها، وفق عدوانٍ ممنهج طويل الأمد على سوريا، فرضَ واقعاً ديمغرافياً جديداً تحت عناوين (مشاريع اقتصادية وثقافية واجتماعية)، والنية المبيّتة تغيير معالم النسيج السكاني لهذه المناطق عبرَ سياسةٍ ذات أبعادٍ استراتيجيةٍ بعيدة المدى، تهدفُ ببساطة لإلحاقِ تلك المناطق بِلواء إسكندرون بعد تغيير هويتها السوريّة. اللواء الذي قدمته فرنسا لتركيا عام 1939 كهديةٍ مقابل عدم مشاركتها إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. وحتى وقتٍ قريبٍ، كان يخشى أبناؤه العربُ من التحدُّث بلغتهم الأم، تحت طائلة الاعتقال من طرف السلطات التركية.


ولم تكتفِ تركيا بعمليةِ حشد الجنود والآليات والأسلحة في الشمال السوري، بل قامت بفرض هيمنتها على السكان في اللغة والمدارس والجامعات والمؤسسات. ناهيك عن فرض التعامل بعملة النظام التركي بدلاً عن العملة السورية في المعاملات التجارية وحركة البيع والشراء وغيرها، في وقتٍ تحاول فيه المجموعاتُ المسلحة المدعومة تركياً إحداثَ تغييرٍ جذري في هوية السكان المحليين، في مناطق ريف حلب، التي ما تزال تسيطر عليها، ما ينذر بخطورةٍ كبيرة لجهة تشويه الهوية الوطنية السورية لسكان هذه المناطق رغماً عنهم. فقد أصدر ما يسمى "المجلس المحلي للمعارضة" في مدينة إعزاز في ريف حلب تعميماً يُلزم السكان باستخراج بطاقاتٍ شخصيةٍ جديدة، داعياً المواطنين إلى إصدار الهوية الجديدة، لاستخدامها في الدوائر الرسمية في المدينة، وواعداً بمعاقبة المتخلفين عن حيازتها. في موازة ذلك أُحدث في مدينة إدلب ما يسمّى "أمانة عامة للسجل المدني" تتبع لسلطات الاحتلال التركي مباشرة، كما تمّ تشكيل مجالس محلية في المدن والبلدات والقرى التي ما تزال تحت سيطرتها.


وفي خطوةٍ تحمل دلالات سياسية خطيرة، يصرّ أردوغان على وضع توقيعه بصفته الرئاسية على مراسيم إنشاء كلياتٍ جامعية أو غيرها من المؤسسات التركية في المناطق السورية المحتلة، وذلك في رسالة واضحة مفادها أنه بات يتعامل مع هذه المناطق كما لو أنها جزء من الأراضي التركية. ومرسومُه القاضي بافتتاح كليةٍ للطب، ومعهد عالٍ للعلوم الصحية، في بلدة الراعي بريف حلب يقول ذلك صراحة، وهو ليس أول خطوة لتتريك التعليم العالي في مناطق السيطرة التركية. لقد سبق ذلك مرسومٌ يتضمن افتتاح ثلاث كليات تابعة لجامعة غازي عنتاب: كلية للعلوم الإسلامية في إعزاز، وثانية للتربية في عفرين، وثالثة للاقتصاد وإدارة الأعمال في الباب. بين المرسومين وقبلهما حتى، كان التتريكُ على مستوياتٍ ابتدائية وإعدادية وثانوية في التعليم، ومع كلّ خطوة لأنقرة نحو إنتاج أجيالٍ ممن يتعلمون ويعملون بلغة الاحتلال، كان الجيش التركي والأجهزة الأمنية التركية يتعاونان لتغيير الواقع الديمغرافي في مناطق شمال سوريا، إما بإقصاء وطرد المكون الكردي، وإما بتجنيس السكان العرب لتحويلهم إلى تركمان يدينون بالولاء لتركيا. في سياق موازٍ يأتي استثمار التعليم الديني كجزءٍ من سياسة التتريك التي تتبعها قوات العدوان التركي في الشمال السوري، إضافة إلى أنه جزءٌ من سياسةِ صنع الولاءات، وأدلجة الأجيال الناشئة لصالح التيار الديني التركي. حيث تنشط مديريةُ الأوقاف التركية في الشمال السوري، وتستهدف الأطفالَ بشكلٍ خاص في أنشطتها التي تتمحور حول تحفيظ القرآن، وتلقين الأطفال تعليماً دينياً يتوافق في مضامينه مع السياسات التركية.


وعليه أعلنت "مديرية وقف الديانة التركية"، أنها قامت بتخريج (105) أطفال من مدارس تحفيظ القرآن في مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي والخاضعة لسيطرة قوات العدوان التركي. كما أعلن "المجلس المحلي لمدينة الباب" الشرقي بدء مشروع بناء مدرسة إسلامية باسم ضابط تركي يدعى "الشهيد سليمان داميرال" للعلوم الشرعية، كان ضمن القوات التركية التي تسيطر على المدينة، انفجرت عبوةٌ ناسفة أثناء محاولة تفكيكها على يده، ما أودى بحياته على الفور. كما أطلق المجلسُ المحلي بمدينة إعزاز اسم "الأمة العثمانية" على الحديقة العامة في المدينة بعد ترميمها في خطوةٍ تشبه إطلاق اسم "أردوغان" على ساحةٍ عامةٍ بمدينة عفرين.


وتدّعي الحكومة التركية أنّ هناك العديد من المناطق والقُرى السورية في محافظتي حلب وإدلب تعود ملكيتها لعائلة السُلطان عبد الحميد الثاني، وهذا يعني أنها أراضٍ تركية، وفُرصَتها الذهبية اليوم بالسيطرة عليها، وضمِّها لتركيا، سواء بشكلٍ رسمي أو بِحُكم الأمر الواقع. ولذلك لجأت إلى تحويل منزلٍ في منطقة عفرين إلى متحفٍ بحجّة أنّ "مصطفى كمال أتاتورك" استخدمهُ كقاعدةٍ خلال الحرب العالمية الأولى. وأشارت تقارير إعلامية ومصادر أهلية إلى أنّ تركيا بالتعاون مع مرتزقتها من الإرهابيين لم تكتفِ بتغيير أسماء القرى والمدن والمعالم الرئيسة فيها، بل عمدت إلى فرضِ مناهج تعليم في عددٍ من المدارس في بلدات ريف حلب التي تحتلّها، وإلغاء المناهج السورية المعتمدة في وزارة التربية، إضافة إلى فرض اللغة التركية في هذه المدارس.


ومذ سيطرت تلك الفصائل بدعمٍ عسكري ولوجستي من أنقرة على مدن إعزاز والباب وعفرين وجرابلس، التي كانت تخضع لسيطرة تنظيم "داعش" قبل ذلك، بدأت مظاهر "تتريك" تظهر بشكلٍ جليّ في هذه المناطق تحت غطاء "المساعدات التركية"، حيث تكاد لا تخلو جدران مختلف المقرّات الحكومية والخدمية في هذه المدن من كتاباتٍ باللغة التركية، أغلبها تحمل أسماء رموز من زمن "السلطنة العثمانية". كذلك علقت الفصائلُ الموالية لأنقرة صوراً كبيرة للرئيس التركي على بعض الدوائر الحكومية في جرابلس، ومنها شركة كهرباء المدينة التي أنشأتها تركيا بعد سيطرتها عليها. وسياسة التتريك لم تشمل العرب فحسب بل الأكراد كذلك، ففي مدينة عفرين وأريافها، تمّ إزالة اللوحات التعريفية لأسماء القرى ومدخل المدينة، واستبدالها بلوحات تعريفية أخرى، بعضها يتضمن كتابات باللغة تركيا وعليها علم تركيا، ما أثار استياء الأهالي.


والجدير ذكره أنّ تركيا تدعم عدداً كبيراً من الفصائل في الشمال السوري، تتصارع بين الحين والآخر فيما بينها سعياً لتوسيع نفوذها. وسبق لـتركيا أن استخدمت هذه الفصائل لخدمة أجندتها في بلدان أخرى فأرسلت عدداً منهم إلى ليبيا باعتراف أردوغان نفسه، كما وردت عدّة تقارير إعلامية توثّق إرسال عدد من مسلحي هذه الفصائل إلى أذربيجان خلال معاركها ضد أرمينيا رغم النفي التركي الرسمي لذلك. لا شكّ أنّ حضورَ تركيا الأطلسي وفي قلب الناتو، يمنحها مقعداً في الملعب الجيو سياسي الأوروبي، وإمكانية التلاعب بقضية اللاجئين وإثارة قلق الاتحاد الأوروبي المزمن وتحويله إلى أرقٍ دائم، في حين تحافظ روسيا- اللاعب الأهم في سوريا- على علاقاتٍ عسكرية وسياسية واقتصادية وسياحية مميزة مع تركيا، رغم الحذر وعدم الارتياح الذي يشوب الحديثَ عن مسالك النفط والغاز وطريق الحرير والتجارة والمضائق البحرية. في المقابل سمحت واشنطن عدّة مرات لـلرئيس التركي بالتوغل شمال سوريا خلال السنوات العشر الماضية، كان آخرها عملية (نبع السلام) التي شنّها الجيشُ التركي شرق الفرات عام 2019.


ليفانت - عبير نصر

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!