-
الإخوان المسلمون في سوريا..ورحلتهم المشبوهة نحو السلطة..(الجزء الثاني).
من يتابع حال جماعة «الإخوان المسلمين» من الداخل يجد صعوبة في قراءة ما هم عليه اليوم من توحّد ظاهري في بيتهم الداخلي، بل توحد مع كل الإسلاميين كالقاعدة وحزب التحرير وصولاً إلى جمهرة المشايخ، وكل هؤلاء كانت الجماعة في حرب ضروس معهم في سالف الأزمان!
فمن عادة الإخوان المسلمين أنهم يختصمون مع الجميع حين تكون الظروف السياسية عادية أو شبه عادية إلى درجة أنهم يختصمون مع أحشائهم إذا غاب من المشهد عدو خارجي يستشكلون معه.
وهذا ما حدث فعلاً مع إخوان سوريا حين انقسموا إلى مكتبين، مكتب دمشق ومكتب حلب، فالمعروف أن الأستاذ «عصام العطار» هو المراقب العام لإخوان سوريا وفقاً لتكليفه من قبل الدكتور «مصطفى السباعي»، لكن الذي حدث أن «الحلبيين» استاؤوا من سيطرة «الدمشقيين» على قرار الجماعة، وفقاً لتصورهم، وبدأوا بإثارة مسألة الانقلاب على العطار بدعوى أنه يقيم خارج سوريا من جهة، ومن جهة أخرى اعتراضهم على توزيع أعداد الممثلين في المكتب التنفيذي للجماعة فكان لدمشق خمسة أعضاء بينما يمثل حلب أربعة أعضاء وهذه القسمة غير عادلة وفقاً للحلبيين.
وبعد أخذ ورد وشد وجذب بين الفريقين، ووعود من العطار بتسوية الأمر أعلن الحلبيون انفصالهم عن مكتب دمشق وتأسيس مكتب للإخوان في حلب، المدينة التي احتضنت أصلاً الولادة الأولى للإخوان، حدث هذا في نهاية الستينات من القرن الماضي، واشتد الصراع بين المكتبين، لكنه حسم لصالح الحلبيين في النهاية لعدة أسباب أهمها: أن «إخوان دمشق» يميلون إلى «مدرسة سيد قطب والهضيبي» في مصر، حيث مركز الجماعة ومهدها الأول، وهذه المدرسة تتبنى طريقة «البناء العميق» التي تعتمد على تربية الفرد وتدرجه البطيء على السلم التنظيمي، بينما جنح «إخوان حلب» إلى «مدرسة البنا» التي تعتمد طريقة «الانتشار الأفقي» وتجميع أكبر عدد من العناصر لتكثير أعداد الجماعة، إضافة إلى الجولات المكوكية التي قام بها مكتب حلب في المحافظات السورية لاستمالتها إلى صفوفها، وكانت معظم المحافظات السورية مغيبة عن صراعات المكاتب وتعتبر نفسها تابعة إلى «الجماعة الأم» ومركزها دمشق، لكن الحلبيين تحدثوا مطولاً عن سقوط شرعية العطار وانتهاج دمشق للخط السلفي الذي لا يتفق مع روح الجماعة الميالة إلى الاعتدال، والاعتدال هنا يعني الانخراط في «جمهرة المشايخ» مع احتكاك محدود بالصوفية. دار هذا الكلام في أذهان البعض وأعرض عنه البعض الآخر فانتقل الانقسام إلى معظم المحافظات حتى إنك لتجد المحافظة الواحدة منقسمة إلى قسمين «حلبي ودمشقي» مع وجود أغلبية حموية تميل إلى حلب، مثلاً مقابل أغلبية حمصية تميل إلى دمشق.
لم يكتف إخوان حلب بالطواف على المحافظات لكنهم ارتحلوا إلى مصر لاحقاً يشرحون لـ «مكتب الإرشاد» تفاصيل خلافهم مع مكتب دمشق، وحدث هذا في مرحلة تولي «عمر التلمساني» (1973-1986) منصب المرشد العام لإخوان مصر خلفاً لـ «حسن الهضيبي»، ويقال الكثير عن شرعية التلمساني، الذي خرج من السجن عبر صفقة مع الحكومة المصرية برئاسة الراحل «أنور السادات» قبل من خلالها التلمساني الخروج من السجن وقيادته لتنظيم الإخوان المسلمين بشروط السادات التي يمكن اختصارها بفكرة «العمل العلني» المنسق مع الحكومة.
بمقتضى تلك الصفقة كان التلمساني يردد كثيراً سيرة المؤسس «حسن البنا» الذي اعتمد في خطه الدعوي على الطريقة العلنية الانتشارية، ليغطي التلمساني صفقته مع السادات، لكن الناس عموماً لا يلتفتون إلى تلك التفاصيل إلا القليل ممن واكب تلك الحقبة بعين بصيرة ويد قصيرة، فجنحوا إلى الصمت والسلم معاً، خوفاً من الفتنة والتفرق وإذعاناً منهم لثقافة «التغلّب» التي تكرست في «أدبيات الجماعة» منذ ذلك الحين.
التغلب في الحالة المصرية تمثّل بانتشار مكاتب الإخوان في عموم مصر بتسهيل من الحكومة المصرية التي تطمع بهزيمة «التيار الشيوعي» وقتها أمام الإسلاميين، قبل أن يندم السادات على مغامرته تلك!. ويتمثل التغلب في الحالة السورية بنشاط إخوان حلب وهيمنتهم على معظم المحافظات السورية مستغلين تقاربهم الفكري مع التيار المشايخي في سوريا والذي كان مدعوماً تقليدياً من الحكومات السورية المتعاقبة وخاصة في فترة حكم «حافظ الأسد».
هناك التقى الطرفان المتغلّبان على موعد مع التاريخ حيث منح التلمساني المنشق عن الهضيبي مكتب حلب المنشق عن العطار الشرعية والمباركة، فذهبوا إلى قومهم فرحين بانتصارهم في «معركة الشرعية».
دخل الإخوان المسلمون عقد السبعينات منقسمين إلى جماعتين؛ جماعة حلب في محافظات الشمال، بقيادة «أمين يكن، وعبد الفتاح أبو غدة، وسعيد حوى، وعدنان سعد الدين»، وجماعة دمشق، بقيادة «عصام العطار».
وفي عام 1975؛ تبلورت أفكار المواجهة مع النظام السوري الأسدي، التي سرعان ما تحولت إلى أفكار ثورية مسلحة، لكن هذا التوجه قطعاً لم يكن في حسابات القيادات من الطرفين، في حين كان ينتشر في صفوف الشباب إلى درجة أن البعض يتحدث هنا عن «نظرية المؤامرة» وتحديداً المؤامرة الآتية من أقبية المخابرات لتفجير الموقف عسكرياً في سوريا والذهاب إلى القضاء على الإخوان المسلمين ثم إرساء دعائم حكم الأسد بعد أن يلقّن الناس درساً في عواقب التمرد على حكمه الذاهب إلى مزيد من التسلط والتجبر.
من بين جموع الشباب الغاضب على ممارسات السلطة الطائفية في دمشق برز اسم الشاب «عبد الستار الزعيم» الذي ظهر عليه الحماس الزائد لعسكرة «الشباب المسلم» وهو أحد قيادات الجماعة، وتحلّق طيف من الشباب حوله متفاعلين مع حديثه المتكرر عن السلاح والقوة وشدة البأس، فسارع إلى تأسيس تشكيل عسكري عرف باسم «الطليعة المقاتلة»، مستلهماً تجربة الشيخ «مروان حديد».
الطليعة المقاتلة لم تكن راضية عن حال الإخوان المسلمين الموصوفين بالتخاذل من وجهة نظر الشباب الغاضبين، لكن الطليعة كانت أميل إلى مكتب حلب بحكم عوامل عدة أهمها البيئة التي نشأت منها، بالمقابل فإن إخوان حلب كانوا على مسافة قريبة جداً من الطليعة من قبيل تكثير عددهم من جهة ومن جهة أخرى طمعاً بحصاد المكاسب فيما لو نجحت الطليعة بزعزعة النظام في ذلك الوقت. لكن إخوان دمشق كانوا بعيدين جداً عن نهج الطليعة وقد أرسلوا إليهم رسائل نصح وتحذير من مغبة السير في هذا الطريق مما وسّع الفجوة بينهما. لكن الطليعة عموماً دخلت في صراع مع فرعي الإخوان المسلمين عندما بدأت بسحب عناصر الإخوان من المكتبين بعد إقناعهم بأهمية الجهاد.
صحيح أن الإخوان المسلمين منقسمون على أنفسهم غير أن كل حزب منهم كان مطمئناً لشرعيته محاولاً إقناع عناصره بذلك حتى لم يعد لديهم هم وعمل سوى الصراع على الشرعية، فإخوان دمشق يتمسكون بشرعية الأسبقية والتسلسل، وإخوان حلب متمسكون بشرعية مكتب الإرشاد وبكثرة عددهم، والطليعة متمسكة بشرعية الجهاد.
انتهت الطليعة بعد أن نجح النظام باستدراجهم إلى المعتقلات السورية بفعل عميل مخابراتي واحد يدعى «زاهد دندش»، عام 1984، وفقد إخوان دمشق كتلتهم الصلبة بسبب مسالمتهم للآخرين، ومن بقي اليوم من الإخوان هم إخوان حلب الذين تغيرت تضاريس بنيتهم الداخلية حين تضخمت «كتلة حماة» متمثلة بـ «رياض الشقفة» و«فاروق طيفور» داخلهم.
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!