الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
إسلاميون في مواجهة مجلس الكنائس العالمي
عمار ديوب

نَشر تلفزيون سوريا، تقريراً هاماً حول جهة "مسيحية"، تُيسّر إقامة ندوات وحوارات في الداخل والخارج، ومنذ 2012، بعنوان "مجلس الكنائس ورعايته لـ"ورقة العقد الاجتماعي السوري". تضمن التقرير تسلسل تطوّر أفكار تلك الجهة، مجلس الكنائس العالمي، وصولاً إلى إقرار وثيقة من عشرين بندٍ "نحو أسس لعيش مشترك ومحددات لعقد اجتماعي سوري". الورقة هذه عُرضت في الأشهر الأخيرة، وعبر استبيانات على قرابة عشرة آلاف سوري للاستئناس بآرائهم، وإقرارها بشكل نهائي.

بالاطّلاع على آراءٍ كثيرة ممن أبدوا أفكارهم حول تلك الندوات ومضمون تلك البنود، فقد انصب النقد للجهة، باعتبارها مسيحية، وأنّ نشاطاتها تشوّه الهوية السورية "الإسلامية"، وأن ذلك سيهدّد مستقبل المجتمع السوري، وبالتالي يجب الكف عن تلك التدخلات؛ وبالعودة إلى تلك البنود، يتبين أنّ رؤيتها علمانية، ولا سيما في المواد: 7 و8 و9 و15، ولا تتنافى مع أغلبية أفكار القوى السياسية المدنية في سوريا، وأية رؤى وسياسات ستناقش الدولة الحديثة.

تجاهلت الآراء الناقدة أن في سوريا مسيحيين، وأن تلك الجهة لم تكن أكثر من مُيَسرة للحوار وجمع الآراء والتقريب بين السوريين، وإذا كنّا نتفق مع آراء كثيرة في خطأ تغييب السبب الرئيس للمشكلة السورية، وأقصد رفض النظام السوري إعطاء السوريين حقوقهم، وإدخالهم بمأساة لم تنقطع منذ 2011، حيث يرد في مقدمة الوثيقة "عانى المجتمع السوري من الانقسام والتمزق"، فإنه يَغيب عن ذلك النقد مسؤولية المعارضة أيضاً في أخطاء قاتلة وقعت بها، وأدخلت بها الثورة، وكانت النتيجة ارتهان سوريا، بسبب النظام، أولاً، وسياسات المعارضة، ثانياً، للتدخلات الإقليمية والدولية.

يكرّر الإسلاميّون أنَّ هويّة سوريا إسلاميّة، وأن هذه الفكرة يجب أن تكون شاملة لكل ما يخص الوضع السوري. نقرّ، أنّ هناك كتلة شعبيّة تدين بالإسلام وهويتها إسلامية، ولكن من الجدير ملاحظته أن هناك تعدديّة في تلك الكتلة، وفي فهمها للهوية، وفي طرق الدفاع عنها، وفي الخروج منها كذلك. أيضاً، هناك تعدّديات دينية أخرى، وليست مقتصرة على المسيحيين؛ الإسماعيليون والدروز والعلويون ومجموعات متعددة، وضمن تلك البيئات هناك تعدّديات إضافية. والسؤال هنا: إذا قلنا إن سوريا هويتها إسلاميّة، فكيف سنتعامل مع مفهوم التعدّدية، داخل أهل السنة، وخارجها، أليس عبر الشكل القديم، أي عبر هيمنة الأكثرية على الأقليات، وهو ما ساد في القرون الوسطى، وكان تعبيراً عن طبيعة العلاقات الدينية حينذاك؟

هناك فكرة قَيّمة في التقرير، وتقول: لماذا لا يعقد المجلس الإسلامي السوري ندواتٍ لتقريب وجهات نظر السوريين، ويغلق الباب أمام عاصفة التدخلات الهادفة إلى تغيير هويّة المجتمع السوري؟ المجلس الإسلامي نشر بياناً حول مفهوم الهويّة منذ أشهرٍ، ويبدو أنه ينتقد الدور المُيَسّر لمجلس الكنائس ولآخرين، يرون أنّ الهويّة متعدّدة ومتغيّرة. المجلس إياه، نشر بياناً، مؤخراً، حول رفض التدخل الخارجي، وتحدثت قيادات فيه عن رفض المجتمع المدني ومساواة النساء، وعلى رأسها الشيخ أسامة الرفاعي، الذي صار "مفتياً". هذا "التكفير" يوضح العقليّة التي تتحكم بالمجلس وبدعاةٍ وشيوخ كثر، أصبحوا يتصدّرون "المعارضة"، وإدارة شؤون المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وطبعاً لا يشمل كلامنا هيئة تحرير الشام، التي تعلن مشروعاً جهادياً خالصاً، ولا أحد يثق بالتغييرات التي طرأت عليها في السنوات الأخيرة.

طبعاً، لا يمكن للمجلس الإسلامي أن يقيم حوارات كتلك، فهو غير معني بالأطراف السورية الأخرى، ويغلب على رؤيته التسييس، والإفتاء بكل قضية يراها تؤثر على الهوية "الثابتة والجامدة"، أي أن عقليته السلفيّة تمنعه من رؤية سوريا تعدديّة، ومدنيّة، أو علمانيّة، وأيضاً إسلامية دون تسييس. القضية هنا، تكمن في الخلط بين الهويّة الدينية بالمعنى الاجتماعي والثقافي، وهي متغيرة ومتنوعة، وبين الهويّة السورية السياسية، وأنّ الأخيرة لا تقوم إلّا على مبادئ المواطنة وشرعة حقوق الإنسان في الدولة الحديثة وحيادية الدولة إزاء الأديان.

مشكلة مجلس الكنائس لا تكمن في النقد المُوجَه له، بل في تجاهله أسباب "تمزق وانقسام" المجتمع السوري، وأهداف الشعب السوري، في الانتقال الديمقراطي والتغيير الجذري للنظام القائم والعدالة الاجتماعية، وفي تصنيف السوريين على أسسٍ طائفية أولاً، وأسسٍ قومية بدرجة أقل، وكأنّ الثانية وُضِعت من أجل تبرير الأولى "الاستبيانات كانت على هذا الأساس". إضافة لذلك، تنطلق أوراق المجلس هذا، من واقعٍ مصطنع، يرى سوريا طوائف متقاتلة، وعليها أن تتصالح، وانطلاقاً من ذلك تُدير ندواتٍ في كافة المناطق، لدى النظام وقسد والفصائل التابعة لتركيا والخارج، وأمّا منطقة هيئة تحرير الشام، فقد هجرها أهلها من الشيعة والعلويين والمسيحيين، وما تبقى من دروز يعانون كل أصناف الهوان والذل. الهيئة والفصائل وقسد يشبهون النظام في القمع والفساد والنهب، وتبني رؤية سياسية أو دينية أحادية، ويرفضون أيّة أشكالٍ من التعدديّة؛ إن قسد مثلاً، رفضت إشراك أحزاب المجلس الوطني الكردي في مناطق سيطرتها، وتتفنن في إذلال العرب، والفصائل المسيطرة على عفرين يعاني في ظلّها الأكراد الأمرين، بهدف تهجيرهم من مدينتهم.

هناك مشكلة كبرى وراء ما حاولنا تحليله أعلاه، وترتبط بأن إطالة عمر الثورة، والدعم الخارجي المُركّز للسلفية والجهادية، والتبعية للخارج، أدّى إلى أن يتحكم شكل الوعي السابق بالوعي "الثوري"؛ أي الوعي الذي أفضت ممارسات النظام إليه، حيث كرّس الانقسامات وليس التعدّدية، الدينية والطائفية والجهوية والأسرية والقومية بالضد من الأكراد والعكس صحيح، طيلة عقود حكمه. إن إعادة إنتاج الوعي الديني وتطييفه بشكل كبير فيما بعد 2011 و2012، أدى إلى سيطرة العقلية السلفية والجهادية، وأصبحت هي المرجعية للحياة في المناطق "المحرّرة"، والأمر ذاته في مناطق النظام.

إن المجلس الإسلامي السوري هو مرجعية تلك الفصائل، والموجه السياسي للأخيرات دينياً وطائفياً، وأمّا مرجعية هيئة تحرير الشام فهو الفكر الجهادي، وبالتالي وبدلاً من أن تتبنى المجموعات الإسلامية رؤية منفتحة وضمن المنظور الإسلامي المعتدل، ومنها أفكار الحوار بين الأديان مثلاً، وضرورة العيش المشترك وتبني مبدأ المواطنة في السياسة، رفضت كل ذلك، متمسكة بتديينٍ وتطييفٍ واسع للمجتمع، وتجاهلت الوضع الاقتصادي والاجتماعي للمهجرين والنازحين ولعائلات المعتقلين، وبالوقت ذاته صمتت تلك المرجعية وكافة المشايخ "المعارضين" عن ممارسات القيادات المسيطرة في "المحرّر"؛ ولولا الانحطاط الكامل لتنظيم "أبو عمشة"، لما طُرح ملفه مؤخراً، وبالوقت ذاته لا نسمع لها كلاماً عن الأوضاع الكارثية في مناطق هيئة تحرير الشام أو انتقاد أفكارها، ويرفضون أيّة حوارات مع قسد والأكراد بعامة.

إنّ الدفاع عن الهوية السورية، ينطلق من الإقرار بتعدّديتها وتنوعها، وكونها متغيرة، ويمرّ عبر أفكارٍ تشجع المجتمع والمنظمات المدنية والسياسية، وأيّة جهات دولية وإقليمية ومحلية قادرة على إدارة الحوار بين السوريين، ورفض كافة أشكال الارتهان للخارج؛ إن الرافضين لإدارة مجلس الكنائس للحوار، أو لبنود الوثيقة، ليسوا مؤهلين ليكونوا مرجعية أو حكاماً لمناطق معينة في سوريا، فكيف لكل سوريا؟ إنّهم مشايخ السلطان من جديد، وما زال القديم يجلببهم.

عمار ديوب



ليفانت - عمّار ديّوب

 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!