-
هل تكون حرباً عالمية ثالثة أم يكتفون بحرب باردة ثانية؟
بعد هزيمة الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة بين المحورين، الغربي والشرقي، شعرت النخبة الروسية بمرارة الهزيمة وفداحة نتائجها السلبية على تاريخ روسيا وعلى الهيبة الروسية، فبدأت تفكر في كيفية العودة لسابق عهدها من قوة وجبروت وحضور في الساحة الدولية كإمبراطورية كبرى لا يشق لها غبار، مستفيدة من عوامل كثيرة أهمها: فتور الحماس في دول حلف شمال الأطلسي، وبروز ظاهرة الإرهاب الموجه ضد الغرب تحديداً، واستعداد الجمهورية الإيرانية لركوب موجة الشر وإثارة الفوضى والصراعات، إضافة إلى علاقات نائمة يمكن أن توقظها روسيا في ظل إهمال الغرب لها، ووجود كثير من المقومات التي قام عليها الاتحاد السوفييتي وما زالت قائمة.
فدخلت روسيا بقيادة زعيمها «بوتين» حلبة الصراع الدولي، وبدأت بالملاكمة قبل أن يعطي الحكم إشارة البَدْء، وقد وضعت القيادة الروسية هدفاً لها، الثأر من الولايات المتحدة الأمريكية في آخر نزال استمر لعقود طويلة تخللته أحداث دراماتيكية، كأزمة «الصواريخ الكوبية» و«الحرب الفيتنامية» ثم الأفغانية والشيشانية، وبدا أن الملاكم الروسي أراد أن يحسم النزال بالضربة القاضية، لكن الملاكم الأمريكي أراد أن يحسمها بالنقاط بعد امتصاصه للصدمة الأولى.
هي -إذاً- الحرب الباردة الثانية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وقد بدأها الطرفان بمحاولة كسب أكبر عدد من الحلفاء وأقواهم، مما جعل الحرب الثانية أكثر إثارة من الأولى، وما زاد من إثارتها دخول عامل «الربيع العربي» على خط النزاع، حيث تسعى موسكو إلى لمِّ الكيانات المتساقطة من النفوذ الأمريكي والاستفادة من إهمال أمريكا لحلفائها على الأقل في فترتي حكم أوباما.
اعتبر «بوتين» أن كل شيء يفعله هو لمجد روسيا، وهو يسعى إلى إعادة القوة السوفييتية، ويفكر بعقلية القرن التاسع عشر من حيث إنشاء القواعد العسكرية، ولا يخفي بوتين إعجابه بحقبة «جوزيف ستالين». وبدأت روسيا العمل على كل ما من شأنه الإضرار بمصالح الولايات المتحدة، ويعيد روسيا إلى المشهد الدولي، كما كان الأمر في حقبة الاتحاد السوفييتي السابق، فرأينا روسيا تشن حرباً في جورجيا في عام 2008، بالاستيلاء على أجزاء من «أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية»، وقبل ذلك وضعوا حكومة موالية لروسيا في جزء من «مولديفيا»، وفي 2014 بدأت الحرب مع «أوكرانيا» فأخذوا شبه جزيرة «القرم» وجزءاً من شرق أوكرانيا يدعى «دوباس»، وهم يعيدون تشكيل خريطة الاتحاد السوفييتي السابق.
ومن ناحية الشرق الأوسط، فهم يحسّنون من علاقاتهم مع مصر، ويقاتلون في سوريا حتى آخر جندي إيراني أو آخر جندي من حزب الله وآخر جندي سوري، مستخدمين سلاح الجو، ويريدون حماية قاعدتهم في طرطوس وقاعدتهم الجديدة في اللاذقية، ويريدون أن يستمر الأسد في الحكم، ويتعاونون مع إيران ولديهم ترتيبات جديدة في الشرق الأوسط، حيث يتم محو حدود سايكس بيكو من الخريطة من قبل إيران مستخدمين داعش، وهناك ترتيبات جديدة بدأت تظهر بالتنسيق بين التحالف الشيعي الروسي من جهة، والمحور المقابل، أي الغرب والسنة والدول العربية، مع حضور مفارقة جديدة تتمثل بدخول إسرائيل على الخط.
يمكن القول إذاً: هناك إعادة ترتيب عميقة لتحالفات الشرق الأوسط تحاول روسيا أن تكون الفاعل الأول فيها، حيث تتقدم في كل فراغ تخليه أمريكا «حتى لو كان فخّاً»، مما يتوعد الروس بأفخاخ كثيرة سيقعون بها، من حيث توقعوا أنها فرص متاحة، ويبدو أن «أوكرانيا» هي الفخَّ القادم.
فقد توهم الروس في الحالة الأوربية فرصة مواتية ليحدثوا اختراقاً في حلف شمال الأطلسي، لكنهم اصطدموا بجدار من المصالح التاريخية التي تجمع هذا الحلف، والتي لا تموت، ولكن يصيبها الفتور أحياناً، ثم توهم الروس بأن أمريكا ابتعدت عن دول الخليج إلى درجة تتيح لها التسلل من بين الثقوب، لكنها اصطدمت أيضاً بمواقف سياسية خليجية منسجمة مع المواقف الغربية.
لكن العجيب هو ما حدث في توهم الروس بابتعاد إسرائيل عن أمريكا على خلفية المحادثات الماراثونية المتعلقة بالملف النووي الإيراني، حيث تريد إسرائيل المسارعة في استهداف إيران قبل أن تنجح في حيازة القنبلة النووية، بينما تصرّ أمريكا على معالجة الملف النووي بالطرق الدبلوماسية التي أوحت للكثيرين أن هناك غراماً بين أمريكا وإيران، وخاصة إسرائيل، التي اقتربت من روسيا قليلاً لترسل إلى أمريكا رسالة مفادها أن روسيا موجودة وأن في إسرائيل أكثر من مليون يهودي من أصول روسية، لكن سرعان ما عادت المياه إلى مجاريها بين إسرائيل وأمريكا، فلم تجد روسيا مع إسرائيل سوى شيء من التنسيق التكتيكي في سوريا مع بقاء الموقف الإسرائيلي إلى جانب المواقف الغربية.
يمثّل الاقتصاد الروسي عشر الاقتصاد الأمريكي، والنفط هو المنتج الوحيد الذي تصدره لأوربا.. وليس لدى روسيا إمكانيات لبناء قوات بحرية قادرة على الإبحار باستمرار لما يشكله هذا من أعباء على اقتصاد معاقب، فروسيا تحمل طموحات غير محدودة لكن بإمكانيات اقتصادية محدودة جداً، وبشكل أوضح فقد وضعت روسيا خططاً ورصدت لها تقديرات مادية معينة دون أن تحسب حساباً للعقوبات المحتملة، مما جعل الروس يمضون في مخططاتهم دون غطاء مالي كاف للاستمرار.
لقد أعدّ الروس استراتيجية معينة تجاه أوروبا يمكن اعتبارها استراتيجية غير مباشرة، فبدلاً من إنشاء جيش تقليدي يمكنه اخترق ألمانيا والوصول إلى المانش بمدة عشرة أيام، لعبوا لعبة سياسية أخرى، حيث تقدم روسيا بعض الأموال لليمين واليسار المتطرفين في فرنسا وهنغاريا والأحزاب المعادية للمهاجرين، وهذه الأحزاب تستطيع أن تحدث خلخلة في الاتحاد الأوربي، كما تدعم روسيا السياسيين الذين يملكون الأفكار المناوئة للاتحاد الأوربي ويسعون للخروج منه.
حاولت روسيا الاعتماد على الصين لتفكيك الاتحاد الأوربي، لكن الصين لا تستجيب للدعوات الروسية، فهي تريد الحفاظ على وحدة أوربا، مع أن الصين تعتبر الأخ الأكبر لروسيا، وهي أكبر سوق للمنتجات والمواد الأولية وتسعى إلى تسويق منتجاتها في أوربا، وبالتالي فهي تريد استقرار ونماء أوربا على عكس روسيا.
هي حرب باردة ثانية إذاً، طرفاها الأساسيان هما: أمريكا وأوربا من جهة، وإيران وروسيا من جهة أخرى، ولسوء حظ الشعب السوري أن بلدهم سوريا هي الحلبة الرئيسة في النزال، وواضح أن أمريكا قد استدرجت خصومها إلى حيث يكون الهلاك، ومعهم طرف ثالث هو الإرهاب الداعشي والقاعدي في المقام الثاني، ويغيب عن الذهنية الأمريكية غالباً أن الإرهاب الموجود في سوريا مصنوع ومدعوم من خصوم أمريكا، وأن الأخيرين حريصون على عدم مواجهته، بل على العكس تماماً هم بأشد الحرص على استهداف المعتدلين لأنهم مفتاح لقيام سوريا الديمقراطية، الأمر الذي يرفضه الروس والإيرانيون على حد سواء.
المشكلة في سياسة الدب الروسي أنه لا يحسب للنتائج ولا يكترث بالأخطار، وقد يرى الحفرة أمامه ثم يقع بها وهو يعلم حافرها.
ليفانت - عبد الناصر الحسين
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!