الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
نحو عالم عربي أكثر إنسانية، من يُعارض؟
سميرة مبيض

د. سميرة مبيض


لا بد أن أحد أهم ما كشف عنه العقد الماضي الغارق زمنياً في صراعات الألفية الأولى، هو أن الإنسانية غارت مياهها في كثير من بلدان العالم العربي وتكشفت تراكمات عقود طويلة من القمع ومن تقييد الفكر ومن قتل الابداع ومن اغتيال الكلمة، بل ومن استكثار بذور الجهل والتطرف بتكريس الدين كأداة مُسخّرة لإخضاع المجتمع، لا بد من أن يصبح الظلم في مثل هذا المحيط صفة سائدة يتقرّب منها كل طامع بالتقدم ولا بدّ أن تتنحى الإنسانية في عوالم لا تعترف باصطفائها كصفة للحياة لا بل في عوالم تباهي بالهمجية.


ها نحن اليوم على ما نرى وما نؤمن من ضرورة تغيير حتمي للبنية المنتجة لهذا الخراب الإنساني، نحو إعادة تسمية الأمور بمسمياتها، ونحو إعادة الاعتبار للقيم بعد أن رمينا بها في أتون السلطة وفي أتون مشايخها وكهنتها، فما كانت النتيجة إلا الدمار. فما الذي سيُلزم المستقبل بمسار صاعد! ما لم يكن هو ذاته التغيير المنشود لشعوب المنطقة ومالم تقترن محاربة الظلم والقمع بمحاربة الهمجية، والقطع مع كل ما يؤسس لها وما يغذي استعارها.


يطلق مسيحيون من البلدان العربية اليوم نداء للتوجه نحو عالم عربي معاصر وأكثر إنسانية، يتجاوز الحواجز التي وضعتها النظم القمعية بينه وبين الحداثة ويكسر الاسوار التي حجبته بها عن الانفتاح على العالم، كمسار لا ينفصل عن الثورات المتناوبة بين شعوب المنطقة فلا تكاد تهدأ احداها لتنهض أخرى بجوارها. تجلى هذا النداء في الدعوة الى مؤتمر المسيحيين العرب الأول، الذي سيُعقد في العاصمة الفرنسية باريس في تشرين الثاني من عام 2019، متوجهاً للمجتمع المدني الحامل الرئيسي لرؤى المستقبل ولإمكانيات لتنفيذها من أجل الخروج من استقطابات أيديولوجية نحو توجه حضاري متمدن ينهي كبوة قسرية للتقدم دامت فيه لعدة عقود.


لا بد أن الصراع السوري كان أقوى شاهد على هذا الانقطاع، فلا يمكن للزمن ولا للتُخمة في الذاكرة أن يَمحي فظاعة جرائم حدثت على مرأى من أعيننا، مشاهد أشلاء بشرية يتباهى عسكري بالتقاط صورة الى جانبها، وآخر هناك يتباهى بأكل قلب بشري لمن سقط على الجهة المقابلة له، مشاهد سيدات سوريات يروين فظائع ما مرّ بهنّ في معتقلات الاسد، أُخريات يروين فظائع ما مرّ بهن في مناطق سيطرة فصائل متطرفة وميليشيات متشددة، مشاهد جثامين لأطفال رحلوا برعب تحت نصل سكين أو في غمامة كيماوي سام. كثيرون باعوا للقتل، لعنف متفاقم في كل موضع لا يقل عنه خطرا تلك الهمجية دون سلاح، التي تزرع الكراهية بالكلمة وبالفعل لأبواق تصعد وفق سلم تصعيد روح الطائفية والفتنة بين السوريين.


 


في وجه هذا جميعه، لا بد من صوت يقف في الوسط ويقطع المسالك عن تصدير هذا السقوط للمستقبل، بغيرة شديدة على هوية إنسانية حضرية غابت، ولم تعد تقترن في هذا العصر إلا بوقائع الانتهاكات الإنسانية وصمها التطرف ووصمها الجهل ومنتجات نظام قمعي همجي لا يدرك إلا القاع ليحكمه فيحيل المجتمع لما يشبهه. نداء يقف بوجه تحويل أصوات المسيحيين العرب والمسيحيين في البلدان العربية الى أقليات تهيمن عليها أذرع عديدة تحت هذا المسمى فتخمد صوت الحق فيها وتدرجها في ماكينة التسخير والتجهيل لتمنع دورها الفاعل وتأثيرها بالنهوض الذي يشهد عليه تاريخ المنطقة وسيشهَده مستقبلها أيضاً. على هذا كله فأن تغيير المعادلة من استقطاب العنف نحو استقطاب العقلانية ليس بالمهمة اليسيرة وليس دون مشقة مواجهة أصوات تُعارض، عن جهل في كثير من الأحيان وعن تعمد في أحيان أخرى، أن يكون للحداثة وللأنسنة باب يفتح، على طريق تُغرقه الظلمة، لتعبر منه المواطنة بجوهرها وتطبيقها وليس بتكرار الكلام، ولتعبر منه المساواة الإنسانية بالقناعة وليس من مدخل المحاباة السطحية التي تسقط عند أول امتحان، وليكون حوار العقلاء سبيلنا وليس صراخ الموتورين، ليكون الغد ولينتهي أمسٌ طال فابتلع أعمار الشعوب.


 


 




العلامات

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!