-
لا تؤاخذونا: عتمة عصر ودورة زمن
يقول زميلي، الأستاذ الدمشقي المخضرم على مدرجات جامعة دمشق والذي اختار البقاء هنا: لم تعد دمشق كما تعرفها، فالنفوس بائسة والعيون جاحظة، وكلمة "الجبار الله" في كل نفس وعلى كل لسان.. تعتلج بين الجدران، في مساحات الطرقات والحواري الضيقة، في انفراجات النور القليلة بعد ساعات طوال من العتمة.
ويضيف: "إنها أبرد عصور دمشق يا صاحبي.. ومع هذا ما زلنا نمزح ونعالج واقعنا بالتهكم: "يشكلوا آسي"، قمار زوارنا الروس والإيرانيين "أحطوا" البلد كله "بس" ما بإمكانهم ولا يقدروا يناموا بلا "سلاحاتهم".. يا رجل تقول "سلاحاتهم نسوانهم" ما يتركوها لا ليل ولا نهار!".. ونضحك بصوت عالٍ معاً.
هذه البلاد، الشام، والشام ليست مدينة بذاتها، بل رصيد وفير وحافل من التاريخ والحضارة والزمن الممتد في العمق، الشام التنوع الديني والتعايش والسلمي المنتج، من أولى مدنيات التاريخ، ومن أقدم عواصمهما.. والشام أيضاً الجريمة المتكررة والمذبحة الكبرى مرات ومرات.. الشام، وفي مقتبل العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ورغم اتفاق الأمم المتحدة بحرية تقرير مصير الشعوب، وانكفاء الاستعمار، ورغم كل مآسي العصور التي تركزت في أعوام عشر، منها ثلاثة أولى مزهرات وتلتها سبعة وتكاد تنهي الثمانية، مقفرات جاثمات قاهرات لكل النفوس والأفكار، الشام تعيش اليوم في عتمة العصور، وهذا ليس دلالة مادية على انقطاع الكهرباء فيها معظم اليوم، ولا لانعدام مواد المحروقات من تدفئة وغاز وما شابه، بل انعدام أمنها الحياتي والمعاشي واستباحتها من كل جنباتها، سياسياً وعسكرياً ومدنياً ودينياً وثقافياً واقتصادياً، فأرياف الشام تم تهجير معظمه بشبابه وناسه، وهج سكان المدن شظفاً وسحقاً، حتى فاقت نصف سكانها، وامتلك الأغراب معظم ديارها، فيما الباقون يعانون شتّى صنوف القهر والسحق التاريخي ولكن ما زالوا يضحكون، يهزؤون، يتهكمون، ويرددون معي: إنه دور من أدوار الزمان ليس إلا.
نعم لا تأخذونا إن قلّ تواصلنا أو انعدم، إن زهدنا بكل صنوف التقدم والتكنولوجيا، فالزهد والوحدة والاكتئاب والحزن بات وجبتنا اليومية الدسمة، وجبة تقعدك في وحدتك تصادق جدران منزلك وقتاً لا تحسب نهايته، لكن نمارس التهكم والقهقهة والضحك مرتفع الصوت، وأحياناً نمارس بربريتنا ونعاقر بعض الأمل وما "يتعربش" منه على جدران القلوب المنتظرة فرجاً وقولاً جميلاً.
نعم، لا خشية علينا من الموت فقعاً، فالضحك والهرج ليس من دواعي اللامبالاة، بل هزءاً واستخفافاً، وازدراءً أيضاً من هذا الحاضر المقيت ووقاية من صدمات الموت المتكاثر بيننا بشتى صنوفه من جلطات وحسرات.
بتنا نبلغ أقصى جهدنا في الحركة ونلهث خلف طيف فكرة جامعة ليس إلا، ندرك أن لا حامل ولا محمول اجتماعي لها، فقد بلغت حمولة الواقع والمجتمع من القهر والسحق البشري والقيمي ما لا يمكن لجبل أن يرفعها، ونحاول بلا ملل أو كلل ونكابر.
نكابر على جرحنا ولا نستعطي، كلمة "معلش" تكفينا زاداً، وكلمة بتهون تفي غرضاً، ونردد الله يجبر، الله أشفق، الله أعلم.. فقد بتنا نفضل قلة الحوار، قلة الجدل، جدل الفرضيات في الحلول المطلّة عليك من كل صوب وحدب، نحايد ألا نقتات من جراحنا، أن نخفف من وقع هزائمنا وويلاتنا، فيما يصرّ البعض على لغة حوار المهزومين، حيث الكل يريد أن يعلّم على الكل، يفحم الجميع، ويخرج منتصراً من موقعة كلامية ليس إلا، وكأن قدر هذه الأمة أن تعيش على جثث بعض، جسدياً وروحياً ومعنوياً.. لغة المقهورين المغلوبين إقصائية ومتعجرفة وتبريرية، فيما لغة المكابرين على جراحهم وويلاتهم لغة أمل وحنية، لغة كظم وإبلاغ وإيمان لا زيف فيها، بل ثمة بسمة ظاهرة وحزن عميق وعلاج كاوٍ لصميم حياتهم.. هي أبداً ليست لغة بزار لغوي واقتناص الهفوات وتحميل المسؤوليات جزافاً والمغالبة الفاشلة المتكررة ألفاً لليوم بذات الأدوات والأفكار التي أثبتت عقمها وعدم فاعليتها سياسياً وثوروياً. ولا أعلم معنى المنتصر في موقعة كلامية، ولا يدرك معنى أن الجميع يعاني من شتى أنواع الهزائم السياسية والحياتية والمعاشية، سوى أنه دلالة عصر العتمة والسحق التاريخي، فيا لسخف انتصاراتنا!
ما زلنا نمسك بحبال الصبر، ببضع جمل تخرج من القلب، تحاول عكس مجرى تماوتنا اليومي، وإطلالة بعض من أنصاف عدالة بمحاكمة طبيب مجرم وقاتل لضحكات أطفالنا في مشافي وطننا، ولكن في محاكم بلاد "العجم"، ونردد وتردد الجبال الصدى:
لننعم الحواف القاسية بين اختلاف أيديولوجياتنا ودياناتنا، فاختلافنا حق ولكن مصيرنا واحد! لنتمسك بخطوط دفاعنا القيمية والتاريخية، لنتمسك ببعض، بوجداننا الوطني، فالتماسك يوقف سيل الجرف الهائل من إفراغ البلد على آخرها.
فرادتنا وحريتنا الفردية قيمة عليا، ولكن حرية الكل قيمة القيم ومصدر معاش الجميع ومفردات حرياتهم الخاصة على تنوعها.
لنشكل تلك النقاط المضيئة في دروب عتمتنا، فكل السلطات تعيش وتنمو وتزدهر عندما تجد الفرقة والتشتت والتناكف والتهاتر هي نقيضها المباشر، عندما تزرع كل صنوف الفتنة والتفرق بين من تسميهم رعايا حكمها وسلطتها.
الدول لا تنهار بانهيار سلطاتها، بل بانهيار قيمها وعدم قدرتها على تجديد مكنونات حضارتها: مادياً ومعنوياً، وما بينهما من قيم عصرية تتصل اتصالاً مباشراً بالتاريخ، تأخذ منه الإيجابي والمنفتح، وتزيح من على كاهلها السلبي والمغلق، لتبدأ طوراً جديداً من حضارتها المتجددة، سماها الآخرون، أقراننا في أوروبا ذات يوم، عصر الأنوار بعد عصر ظلمات. لهذا اتفقت وزميلي الدمشقي أن محاكمة واحدة لا تكفي شفاء جروح سحقنا اليومي، وأن عتمة عصرنا ليست سوى دوراً من أدوار الزمان مهما اشتدت ظلماته، ومحكمة الزمن الجماعية آتية لا محال.
مبكراً، وقبل أن تعلن قطارات الهجرات صفاراتها غير المنقطعة، اخترت كما اختار جيل عريض من السوريين رحلة الألف الميل، بعت أرضي قبل 8 أعوام، وكنت قد تركت قبلها بعام عملي الحكومي طوعاً، أدركت مبكراً أن رحلتنا طويلة ولكنّا كسرنا جليد الاستبداد وعصر الخوف، لا بل دخلنا المرحلة الانتقالية قبل تحققها السياسي، وأنها ستمتد طويلاً بامتداد عدم قدرتنا على تنعيم الحواف القاسية بيننا، على قدرتنا بتغليب مصلحة الكل على النزعات الفردية المتنامية بيننا، على قدرتنا على تحمّل مشقة الطريق والرحلة الطويلة بكل منعرجاتها وانحرافاتها السياسية والدينية والقيمة. يومها سددت ديوني المتراكمة لعامين متتاليين، أدركت مبكراً أن لا منجاة من الموت إلا بمغالبة الموت نفسه، وبدأ فصل آخر من فصول شامنا الطويلة.. فمنّا من نجا، ومنّا من دفن تحت التراب وقضى في المعتقلات ومشافي البلاد وهذا الوجع الأكبر، ومنّا من هاجر بعيداً.. ومن بقي هنا يعاند كل لعنات العصر والعتمة الطويلة وسحق النفوس، ولكن يمسك بمباضع الأمل: صمت أمام الكلاموية المتقنة المفرغة من القيمة، تأمل أمام كثر الافتراضات الجزافية، وتهكم ونهفة من واقع مرير، ومحاولة على الاستمرار، ولسان حالنا يكرر لعلّ أبناؤنا يدركون عصر الأنوار بعد عتمة.
فلا تؤاخذونا ان لم ندخل مهاترات العَلمنة والأسلمة والتطييف، فهذا العصر عصر التحولات الكبرى وإن بات كل ما فيه سخيف بلا قيمة، فليس سوى دور من أدوار الزمان.
ليفانت - جمال الشوفي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!