-
شرعنة القمع وظاهرة "المواطن الصحفي"
في ظلّ المناخ الأمني الذي سيطر على سوريا، نمت الفردية، وأصبح المواطن العادي يبتعد عن أيّ عملٍ منظم، بل بات يشتبه في كلّ من يدعو لذلك، وعليه تغوّل النظام السوري بينما الرعب يشلّ أطراف السوريين وألسنتهم عن قول الضدّ والاعتراض على منهج وسلوك الحاكم المستبدّ، الذي سعى إلى "شيطنة" خصومه ومهاجمة وسائل الإعلام الحرّة ونشر الأكاذيب، لاعباً الدور الرئيس والوحيد في البلاد، مانحاً نفسه المبررات التي هي إفرازات نفسه المريضة المتعالية.
وما زاد الطين بلّة اتساعُ رقعة الانتهاكات الإنسانية العابرة للحدود، والإفلات من العقاب، وتزايد عمليات الترهيب والاحتجاز والخطف والترحيل والاغتيال في ظل العولمة، والثورة الرقمية، وتطور أساليب الرقابة. وبالتساوق مع "شرعنة القمع"، حرصت الأجهزة المخابراتية على زرع ثقافة "اللهمّ أسألك نفسي"، وعلى تقويض أيّ عمل جماعي أياً كان، فمنعت تنظيم الأحزاب والجمعيات المدنية، طبعاً عدا الأحزاب التي دخلت خيمة "الجبهة الوطنية التقدمية"، والتي قامت بإجهاض الأحزاب الأخرى وجعلها عقيمة، ثم وضعت مدونة سلوك بهدف تقليم أجنحة النخب الثقافية وترويض الصحافة الأخلاقية. تسعى من خلال إثارتها للمعاني السامية من قبيل الشرف والسمعة واحترام قدسية السلطة إلى ردع التحقيقات، ومنع فضح الإساءات التي ترتكبها المنظومة الحاكمة، أو الكشف عن الثروات التي يتم الحصول عليها بطرقٍ ملتوية. وفي الواقع، غالباً ما تكون الحكومات الأكثر مطالبة "بالصحافة الأخلاقية" هي أول من يدفع وسائل الإعلام لتجاوز جميع المعايير الصحفية خدمة لمصلحتها، ففي البلدان ذات الأنظمة الاستبدادية تكون الدعواتُ الموجهة للصحفيين بممارسة حسّ المسؤولية والاحترام كنايةً صريحة عن فرض الرقابة.
ضمن هذه المعطيات الكارثية، من المدهش أن تأتي انتفاضة الشعب السوري بحسّ جماعي من دون تنظيم ولا قيادة، ليدخل معركة محتدمة ضد عدوّ منظّم ومؤسس بشكل احترافي. عدوٌّ يملك أجهزة هرمية عديدة بنظامِ انضباطٍ عسكري، راكم جبالاً من العنف والرعب على مدى أربعة عقود، إذ كان يُعِدّ ويستعدّ دائماً لحراكٍ من هذا النوع، لذا سعى للقبض على مقدرات الدولة بكاملها، سخّرها، ودون تردد، لمواجهة شعب قام مطالباً بحقّه في اختيار قيادته، واختيار شكل نظام حكمه. ومع بدء عام 2011، كانت سوريا من أسوأ الدول بمقياس حرية الصحافة في العالم، وكان النظام الحاكم يقمع ويراقب كافة وسائل الإعلام، لكن سرعان ما جاء من يُشبع الرغبة الكبيرة بمعرفة ما يحدث حقيقةً داخل البلاد إبان الثورة السورية، بعدما أدرك كثيرٌ من السوريين أنّ أول ما يشرع به الطاغية لربح معركته ضد شعبه الأعزل، هو تدمير روح المواطنين، وإثقالهم بالهموم والأعباء ليصبحوا عاجزين عن فعل أي شيء.
وعليه شكّل المجال الالكتروني الافتراضي في سوريا مدخلاً رئيساً لتكوين رأي عام مشكك بشرعية السلطة المستبدة، ومنصة لطرح تساؤلات جوهرية تتعلق بمطالب الإصلاح والتغيير. ورغم أنّ الثورة السورية مرّت بعدّة منعرجات وتحولات مختلفة الخطورة، وتعرّض فيها الصحفيون والناشطون الإعلاميون لكثير من الانتهاكات والمضايقات، خصوصاً مع اختلاف وتبدّل القوى المسيطرة على الأرض، والتي غالباً ما تكون أول إجراءاتها، بعد تحقيقها للسيطرة الفعلية، استهداف حرية الصحفيين، وتقييدهم ضمن سياساتها، رغم هذا فقد أفرزت ظروف الحرب القاهرة ظاهرة "المواطن الصحفي" الذي أخذ يقوم بتغطية جرائم وانتهاكات النظام السوري في كافة المناطق. واستطاع رصد الأحداث بكاميرات متوسطة الجودة أو حتى كاميرات الموبايلات.
ومع وجود كثير من الأخطاء، المتمثلة بالارتجالية وعدم الانضباط في نقل الأخبار، مثل الكشف عن مواقع العمليات القتالية، وإظهار وجوه الضحايا، والمبالغة بالأرقام وأعداد القتلى، إلا أن بعض المشاريع الإعلامية السورية نجحت بتطوير نفسها، إلى أن غدت مصادر موثوقة تعتمدها وكالات إعلامية إقليمية ودولية. تدريجياً أصبح هذا الإعلام البديل رافداً رئيساً في المعلومات الموثقة حول ما يحدث في الداخل السوري، واكتسب "المواطنون الصحفيون" خبرتهم بلحمهم الحي، بعدما خاضوا التجربة الفريدة بلا مقدمات، محدثين صدمة عنيفة لدى النظام السوري الذي تفاجأ بقدرة المواطن العادي على التحدي ودفع الثمن اعتقالاً واغتيالاً، متجاوزاً عنجهيته وخطوطه الإقصائية والقمعية، معلناً وفاة الاستبداد، وتوازناته، وولادة دور الصوت الحر، بعدما رفض المستبدّ إغلاق سجونه فقام بإغلاق الأفواه عوضاً عن ذلك. وما ردعه الصحفيين عن العمل في موضوعات حساسة إنما يعكس تخبطاً وعجزاً وصولاً إلى نحيب الانهيار الوشيك.
بطبيعة الحال كان الانضمام إلى مواقع التواصل الاجتماعي يُشكّل عامل ريبة لدى كثير من السوريين بسبب سلطة الخوف التي كرّسها تعامل النظام مع تلك المواقع، منذ منعه الوصول إلى موقع فيسبوك عام 2007، لأسباب قال إنها متعلقة بما تروّج له تلك المنصة الافتراضية من أخبار تحرّض على الهجوم ضد السلطة الحاكمة. وأدّى الاهتمام الشعبي الطارئ وقدرة وسائل التواصل الاجتماعي على عرض الأخبار بشكل سريع مقارنة مع وسائل الإعلام التقليدية في منح ظاهرة "المواطن الصحفي" أهمية بالغة ولّدت، لخطورتها وحساسيتها، ثقافة أمنية موازية، بعدما باتت، المدونات والفيديوهات المباشرة وسيلة للتحقق من شرعية النظام الحاكم والقوانين المعمول بها. وبدأت النقاشات والحوارات التي كانت غير ممكنة في المجتمع يتمّ تداولها على الانترنت، ووصل الأمر للشروع بالانتقادات الصريحة والواسعة لسياسات المنظومة الحاكمة.
في سياقٍ موازٍ، اليوم، وعلى الرغم من قلّة عدد "اليوتيوبرز السوريين" الذين يتناولون قضايا الشأن العام، دقَّ "المواطنون الصحفيون الجدد" ناقوس الخطر بعدما ساهموا في تسليط الضوء على الواقع المعيشي البائس، فحققوا أثراً ملموساً بين جموع الجمهور الرافض للواقع الحالي منذ انطلاق الاحتجاجات الشعبية عام 2011، وتجرؤوا على كسر حاجز الخوف مجدداً، ما أقلق المنظومة الحاكمة التي لم تتوقف عن إصدار قوانين رقابية صارمة، ولن يكون آخرها بالطبع القرار الذي صدر من لجنة "صناعة السينما والتلفزيون" حذرت فيه كل من يقوم بنشر محتوى فني يخص مواقع التواصل الاجتماعي، ما يعرف بـ"اللوحات الدرامية"، دون الحصول على ترخيص، بإحالته إلى فرع الجريمة المعلوماتية في الأمن الجنائي. مبدية في ختام المنشور أسفها من حالة الانحلال الأخلاقي الفني والفكري، والاستعراض المبتذل الذي يعرض على بعض منصات التواصل الاجتماعي.
إن الرهانات عالية، لا شكّ، على أهمية "المواطن الصحفي"، ويدلنا تاريخ الاعتداءات ضد الصحافة أنّ الصحفيين السوريين لقوا حتفهم لاستعادتهم لواء الأخلاقيات من أيدي الذين يرغبون بارتهانها، من بينهم النظام المستبدّ، كذلك مطبّليه ومنظّريه المتظاهرين بالوازع الأخلاقي، ما أدى إلى مواجهة جماعاتٍ متنمرة ونخب فاسدة تتمتع بالسلطة. لذا ليس غريباً على الإطلاق أن يتمّ إغلاق آخر متنفس للسوريين عبر مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، المنصة الوحيدة المتاحة لتداول ملفات الشأن السوري العام، وممارسة نوع من الحرية في النشر بشأن الشواغل الأخلاقية والإنسانية في مجتمع مسحوق، لتحريك جمهورٍ استسلم كليّاً بعد ليّ عنق انتفاضته.
مواقع غدت أهم منابر الدعوة للتحرك والفعل، وتشكيل مبادرات تستطيع أن تفرض نفسها على اللاعبين والمتلاعبين بمصير السوريين، يطلقها سوريون ويموّلها سوريون، وتطرح وثيقة وطنية تتضمن أهدافاً وغايات عريضة يُجمع عليها الشارع السوري، بمختلف أطيافه، تضمن انتقالاً سياسياً منظّماً إلى نظام ديمقراطي يعيد بناء الدولة السورية، مادياً ومجتمعياً واقتصادياً وسياسياً وتشريعياً وثقافياً.
ليفانت - عبير نصر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!