-
المسألة السورية.. كأزمة وظيفيّة في الصراع الدولي
لطالما كانت بلدان معينة ساحة لصراع الأقطاب السياسية الكبرى في العالم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، بدءاً من الحرب الكورية التي تم حسم الصراع فيها بتقسيم كوريا الى شمالية وجنوبية، بعد سنوات من حرب طاحنة كانت تجلياً مباشراً للصراع بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية.
أيضا تجلّى ذلك بوضوح مع نهاية السبعينيات في آسيا، عندما دعم السوفييت انقلابات عسكرية في أفغانستان، أوصلت الشيوعيين الموالين لموسكو إلى الحكم في سعي لمقاومة النفوذ الأمريكي في آسيا، وإبعاد القواعد العسكرية الأمريكية عن الحدود الجنوبية للاتحاد السوفييتي، وحصرها في باكستان، وقد استمر هذا الصراع الدموي ما يزيد عن عقدين من الزمان، حتى انسحاب السوفييت من أفغانستان بشكل مهين، أواخر الثمانينيات.
وحصل ذلك أيضاً في يوغوسلافيا السابقة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات، وجرت حروب تصفية وإبادة بشرية نفذتها القوات العسكرية الصربية مدعومة من روسيا ضد شعوب يوغوسلافيا السابقة، وانتهت بمجازر سربرينيتشا المأساوية حتى حسم بيل كلينتون الحرب بصواريخ توماهوك الاميركية وأوقف عمليات الإبادة بالكامل، حتى توقيع اتفاق دايتون الذي قُسمت بموجبه يوغوسلافيا الى ست جمهوريات، ما زالت حتى الآن.
الأمثلة كثيرة على ذلك حتى مع بداية الألفية الثالثة، ناهيك عن البلدان التي كانت (ومنها ما زالت) ساحة للصراعات الإقليمية الكبيرة، مثل اليمن ولبنان حالياً، بعد بروز العنصر الفارسي إلى الواجهة كقوة اقليمية توسعية ضاربة مع عهد خامنئي الحاكم المطلق لإيران وتوجّه السعودية الى لعب دور إقليمي منافس، سواء في التدخل العسكري المباشر، كما في اليمن، أو من خلال وكلاء لها، كما في سوريا، وجزئياً في لبنان الحالي.
ما يحدث في العراق وسوريا الآن هو التجلّي الأوضح والأكثر تعقيداً للصراع الخارجي على المستويين الاقليمي والدولي، إضافة إلى الصراع المحلي، وهو يحدث في البلدين بطرق مختلفة بسبب اختلاف الخارطة السياسية بين البلدين، واختلاف طبيعة التكتلات السياسية الرئيسة، والمرجعيات الوطنية والدينية، إنما في شبه تماثل فيما يتعلّق بالمرجعيات الإقليمية الدوليّة.
الحرب السورية بدوافع وأهداف غير سورية
يستمرّ الصراع في سوريا بدوافع غير سورية في الدرجة الأولى الآن، بعد أن تم إخراج حركة الاحتجاج السلمي، الثورة للشعب السوري عن وظيفتها الرئيسة الوطنية والديموقراطية والإنسانيّة، وهي إحداث التغيير السياسي الذي يعيد سوريا دولة حقيقية مدنية فاعلة، تكفل لمواطنيها حياة كريمة بعيداً عن الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي والإداري وغياب الديموقراطية التي كرّسها النظام على مدى نصف قرن، هذا التحويل بتدخل سعودي قطري تركي إسلاموي، وغطاء أمريكي، الذي حال دون إحداث التغيير المطلوب بسقوط النظام الذي انهمك بالعمل على استغلال الفرصة التاريخية بتحويل دفة حركة الاحتجاج المدني السلمي إلى احتراب مسلّح بين السوريين، وإعطاء الصراع طبيعة طائفية بدعم إيراني واضح، لعب فيها على كل الأوتار الدينية والمذهبية والمناطقية لتأخذ الأمور منحى حرب أهلية بين السوريين أنفسهم.
وبسبب تعقّد عملية الصراع ودخول عدة دول إقليمية على الخط، إيران والسعودية وقطر، بالطريقة المعروفة، ومن ثم روسيا مع نهاية 2015، بينما كانت الولايات المتحدة حاضرة منذ البداية بأشكال متغيرة، وكذلك الدول الأوربية الرئيسة، مثل بريطانيا وفرنسا، الأمر الذي أخرج تأثير القوى المحلية عن لعب أي دور مؤثر وفعال، بحيث أصبح حتى النظام إضافة إلى قوى المعارضة المسلحة على الأرض، مجرد أدوات، كبرت أو صغرت، تعمل بأجندات القوى المؤثرة، سواء أكانت إقليمية (السعودية وقطر وإيران ومن ثم تركيا) أو دولية (روسيا والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي الكبرى)، بحيث بدا واضحاً أنّ حسم الصراع في سوريا والذهاب نحو الحل السلمي، أصبح خارج قدرة الأطراف المحلية قطعياً (النظام والمعارضة)، وأنّه خاضع لتفاهمات معقدة بين القوى العظمى، ومن ثم القوى الإقليمية، ولأنّ الصراع في سوريا يحقق مصالح واضحة ومحددة لكل طرف من هذه الأطراف الدولية والإقليمية، فإنّ حسمه بسرعة لوقف نزيف الدم وإعادة سوريا إلى بر الأمان، لم يعد من مصلحة أي من هذه القوى قبل أن يحقق لها أجندتها ومصالحها غير المرتبطة على الإطلاق بمصلحة الشعب السوري، أو الأهداف الرئيسة لحركة الاحتجاج/ الثورة التي بدأت ثورة شعبية اجتماعية سلمية، ثم تحوّلت إلى صراع مسلّح أخذ أشكالاً عديدة واتجاهات نظرية معنوية وعملية مختلفة ومعقدة.
الأزمة الوظيفة
تبدو المسألة السورية بالمعنى التقني أزمة وظيفية في الصراع الدولي، هي بالنسبة لكل الأطراف، باسثناء الشعب السوري، أزمة سياسية إقليمية دولية تؤدّي مجموعة من الوظائف السياسية واللوجستية والديموغرافية والعرقية والطائفية أيضاً، لتصبح سوريا ليست مجرد ساحة للصراع الدولي أو الإقليمي، وإنما تلك المنطقة الملتهبة في العالم التي يحاول كل طرف من أطراف الصراع عليها وفيها أن يحقق أكبر مكاسب ممكنة، تسمح له بإعادة خلط الأوراق وتغيير قواعد لعبة النفوذ السياسي والاقتصادي في المنطقة كلها، وليس على الأرض السورية فحسب.
الأزمة الموظفة بعناية فائقة ودقة كبيرة في الحسابات ولعبة الكرّ والفرّ، والتفاهمات التي تتم جزئياً ومرحلياً لخدمة الأهداف المعلنة وغير المعلنة لكل الأطراف، بحيث تضمن لكل طرف ما يستطيع الحصول عليه، مستخدماً كل الأدوات المتاحة له بدءاً من النظام، كأداة لروسيا وإيران، إلى بعض قوى المعارضة المسلحة، الأداة للسعودية أو تركيا وقطر، إلى التوظيف المعقد للمسألة الكردية المعقدة أصلاً في سوريا ودول الجوار، إلى توظيف تكتلات المعارضة السورية في إسطنبول (بشقّيها السياسي والمسلّح) والمستخدمة، كأداة طيعة لتركيا، لتعزيز نفوذها في شمال سوريا في وجه الوجود الكردي المسلح للأكراد هناك، إلى التوظيف الإجرامي لكل الميليشيات الطائفية العراقية والإيرانية وحزب الله اللبناني، التي تستخدمها إيران في خدمة إعادة السيطرة للنظام وتعميق نفوذها العسكري واللوجستي والاجتماعي أيضاً على الأراضي السورية.
مصالح الأطراف وتجاوز حدود سوريا
من هذا الفهم للمسألة السورية الآن يمكن فهم المسعى الروسي في سوريا، منذ مباحثات أستانة وصفقات المصالحة المشبوهة، إلى المفاوضات المفروضة، شكلاً ومضموناً، لللجنة الدستورية شبه المعطلة، على أنّه مجرد خطوة في مسار تجيير روسيا للمسألة السورية لخدمة أجندتها الإستراتيجية غرب آسيا، شرق المتوسط، بإحداث سوريا كجمهورية شبه منتدبة للاتحاد الروسي، كما أنّه خطوة للوصول بالتفاهمات مع واشنطن إلى نقطة تنفيذ إعادة إعمار سوريا، الذي تحاول روسيا ومن خلفها إيران استثماره اقتصادياً إلى الحد الأقصى، كأثمن مكاسب لتدخلها الكامل في سوريا بدءاً من 2015، في حين لا يبدو أنّ الأمريكان متحمسون للجهد الروسي في موضوع اللجنة الدستورية والحل السلمي على الطريقة الروسية، الذي يعتبرونه نوعاً من الأمر الواقع الذي تفرضه روسيا على المجتمع الدولي بغية الوصول بسرعة الى مرحلة إعادة الإعمار من جهة، ومن جهة ثانية هو بنظر الأمريكان مسعى روسيا لجرّ المجتمع الدولي بصدد سوريا، بعيداً عن المرجعية الأممية في جنيف واستحقاقات القرار 2254، التي تضع رحيل النظام بنداً أساسياً في الحل، وكذلك مجلس الحكم الانتقالي، البندان اللذان تعبث بهما روسيا بخفة لفرض الأمر الواقع الذي يعزّز نفوذها.
ينطبق الأمر على الحكومة التركية التي تستثمر الأزمة الجارفة في سوريا لحل مشكلتها مع قوات وحدات حماية الشعب الكردية والوجود الكردي، عموماً، في كل الشمال السوري، وبقدر ما تبذل جهدها لتوظيف الأزمة السورية في حلّ مشكلتها مع الأكراد تساهم في هدر الكثير من حقوق الشعب السوري في الشمال، بسبب اضطرارها الى إجراء تفاهمات وصفقات مع الأمريكان أحياناً، ومع الروس أحياناً أخرى، تساعدها في إقصاء الأكراد، حتى ولو كان ذلك على حساب الحقوق التاريخية والأخلاقية للشعب السوري.
كذلك الأمر مع المملكة العربية السعودية، التي تفرض نفسها كطرف إقليمي رئيس، من خلال دورها الداعم، سابقاً، للفصائل المسلحة السورية المعارضة للنظام بشكل ما، ومن ثم الآن من خلال محاولة هيمنتها على الهيئات السياسية للمعارضة السورية، منافسة للنفوذ التركي عليها، سواء في الائتلاف أو في الهيئة العليا للتفاوض، كل ذلك التوظيف للمسألة السورية بهدف تحقيق هدفها الأعلى بخلق نظام سوري موالٍ لها، كلياً أو جزئياً، يضمن لها النفوذ الكافي لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، وكمسعى لإعادة الاعتبار في أحقيّة الحكم لمحور العرب السنة الذي تقوده بعناد في مواجهة محور الشيعة الذي تسيطر عليه إيران في العراق ولبنان.
غياب الذاتي في تعقد الموضوعي
من هنا لا تبدو المسألة السورية قابلة لحل سياسي قريب سواء بلجنة دستورية أو بدونها، بإعادة إعمار أو بدونها، دون الوصول إلى تفاهمات معقدة جداً بين كل الأطراف الدولية، ودون أن تحقق المسألة السورية الوظيفة المرجوّة منها لكل طرف رئيسٍ على المستويين، الإقليمي والدولي، وبالنسبية المطلوبة والمناسبة لكل طرف، الأمر الذي سيحتاج إلى مزيد من الوقت يدفع ثمن إطالته الشعب السوري، والمستفيد الأكبر منه هو النظام باستمرار وجوده في حكم سوريا، وإن على شكل دمية خرقاء.
خلاصة القول، إنّه لم يعد ممكناً الذهاب بعيداً في التحليل للمسألة السورية الآن على أنّها ثورة شعب ضد نظامه، تحوّلت إلى حرب أهلية، أو أنّها أزمة نظام حيال مهامه الوطنية والسياسية والأخلاقية تجاه شعبه، ولا هي أزمة محلية بتداعيات إقليمية معينة بحكم الجوار، كما يحدث في اليمن مثلاً، بل على أنّها فعلياً أزمة وظيفية بنيوية في صلب النظام العالمي (في مستوييه السياسي والاقتصادي)، تسهم بشكل رئيس كأزمة في التعبير عن تعقد الصراع الدولي والإقليمي، ليس على سوريا وإنما في مستوى وجوده وتحققه العياني في العالم كله، وأنّ استنفاذ هذه الوظيفة (الوظائف) المتمثلة في تحقيق أهداف كل الأطراف الإقليمية والدولية، هو الكفيل الوحيد بإنهاء هذه المعضلة بعد إعادة توزيع ساحات ومناطق النفوذ والمصالح الحيوية للأطراف في سوريا والمنطقة عموماً، ما يشير بوضوح أنّ الحل إما أن يكون دولياً، والسوريون فيه هم الطرف الأقلّ تأثيراً، أو لا يكون.
ليفانت – رفيق قوشحة
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!