الوضع المظلم
الأربعاء ٠٦ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
اللغة الصادقة تتجاوز التعريفات الضيقة للهوية
مها حسن
رغم خبرتي الجيدة بمواجهة الجمهور، وبعد جولات متعددة في العالمين العربي والغربي، لمناقشة رواياتي، سواء الصادرة بالعربية، أو المترجمة، فقد شعرت بقلق جديد عليّ، وأنا أختبر للمرة الأولى، مواجهة جمهور كردي. يشبه الأمر، نجاح طالب في الحي، فيهنئه جميع أهل الحي، من أقارب وأغراب، لكنه حين يصل أمام بيته الأول، يخفق قلبه "ترى كيف سيقابلني أبي وأمي؟".

تلك اللحظة هي الاختبار الأقوى والأصعب.. حيث يتوقف عليها الدرس أو العبرة من كل ما قمت به من أداء واجتهاد طيلة حياتك السابقة. لأقل إنني بدأت الطريق بالعكس.

لم أكن جزءاً من المشهد الثقافي الكردي، بل قفزت فوقه وتجاوزته، لأكتب باللغة العربية، وأعاني ما عانيته لسنوات طويلة من التهميش والإقصاء، إلى أن تمكنت من تحقيق مكانة لا بأس بها، في المشهد الثقافي العربي، لتصبح كتبي اليوم موجودة في كبرى مكتبات العالم العربي وفي بعض المدن الأوربية.



يعرفني الكثير من القرّاء العرب، لكنني مجهولة إلى حد كبير، للقارئ الكردي، حتى ذلك الذي يقرأ بالعربية، ويتابع بنهم وجدية، ما يُنشر في العالم العربي.

حين دخلت القاعة في مدينة كولدينغ الدانماركية، والتي كانت المحطة الأولى في جولتي لتقديم كتابي الصادر باللغة الكردية أمام جمهور كردي، كنت أشعر بالغربة.

سبب لي الصديق الروائي جان دوست، الذي كان شريكي في الفعالية، المزيد من القلق، حين قال وبطريقة حاسمة، رداً على سؤالي، بأية لغة ستتوجه إلى الجمهور: الكردية! قال جان. وارتبكتُ. ربما شعر جان دوست بارتباكي، فحاول طمأنتي، بأنه يمكن لكل منا التحدّث باللغة التي يرتاح بها.

كانت القاعة تكتظ بالحضور الكردي، وكان أغلبهم قد جاؤوا من أجل جان دوست، المعروف في الوسط الكردي، وربما كان ثمة رغبة لدى البعض، لاكتشاف الاسم الجديد عليهم، أي أنا.

الناشر شيرزاد بصراوي، صاحب دار آفا التي نشرت روايتي ورواية جان دوست بالكردية، قدّمني باللغة الكردية، بذكاء امتلاك الشيفرة الاجتماعية والثقافية.. ومهّد للجمهور، أنني لا أتحدّث الكردية. "روج باش" بدأت كلامي بهذه العبارة الترحيبية، حيث اعتدت إلقاء التحية على أي جمهور أتواجد بينه، بلغته، ثم قلت بضعة كلمات لا تخلو من الأخطاء القواعدية، لأعتذر من الجمهور الكردي، اضطراري للتحدث باللغة العربية.

يمكن لأي جمهور آخر أن يتفهم وجود الكاتب الذي يتحدث بلغة مغايرة. خاصة بوجود مترجم يرافق الكاتب أمام الجهور الأجنبي، لكن الحالة مختلفة هنا، فأنا لست قبالة جمهور أجنبي، ولن يغفر لي الكردي بسهولة، أن أتحدث بلغة غير الكردية. بالتأكيد لم يكن ثمة مترجم، حيث كنت أفهم كل ما يقال بالكردية، لكنني كنت أعبر عن نفسي بالعربية.

إذن قدم الناشر الندوة بالكردية، وعرف عليّ باللغة ذاتها، وانطلقت أنا، بعد الجمل الافتتاحية بالكردية، لأتحدث بالعربية، عن معنى وجودي هنا، أمام جهور كردي، لتوقيع روايتي المكتوبة باللغة العربية، والمترجمة إلى اللغة الكرمانجية.



"يعود تشكّل منبعي السردي الأول إلى جدتي حليمة التي لم تكن تعرف اللغة العربية. حين كبرت صرت أكتب، متأثرة بروح جدتي، لكنني رحت أكتب بالعربية. أعتقد أن هذه الرواية مكتوبة بروح جدتي الكردية ولكن بلغتي العربية، ولهذا فإن ترجمتها إلى اللغة الكردية فهو يعيدها إلى نسختها الأولى: الكردية. أي أن الترجمة هي إعادة النص إلى أصله، في حالتي هذه". من هنا شعرت أنني بدأت أنسج علاقة تفاهم مع الجمهور، الذي تفاعل معي، وتكسرت خلال لحظات، جدران الفتور والقلق بيننا.

لا أعرف كيف مضت تلك الساعات بسرعة، إذ نسيت الزمن والمكان، وشعرت أنني أعود إلى مسقط رأسي، بين شخوص قريتي الذين وردوا في روايتي هذه "حبل سري"، لتصبح هذه الرواية حبلاً سرياً جديداً، بين كولدينغ وعفرين، وكأنها لم تمر بمرحلة باريس: حيث كتبتُ روايتي.

كانت النساء خاصة متواجدات بكثافة مميزة. نساء كرديات منفتحات على التعلم والتواصل، يملأنني بالطاقة المتبادلة، كأنهن أخوات أو بنات عمومة أو خالات أو عمات. كنت مغمورة بروح حانية دافئة تتعرّف عليّ وتكتشف عوالمي وتطبطب عليّ بحب نادر.

كان التبادل اللغوي بيني وبين جان دوست مميزاً، هو يتحدث بالكردية، التي أفهمها، وأنا أتحدث بالعربية التي يجيدها. وبدت الندوة وكأنها ورشة لغوية واشتغال على فكرة الكتابة بلغات متعددة، والتحدث إلى الجمهور بهذه اللغات، دون ترجمة أو تدخل للشرح. الجمهور ذاته، كان يتحدث باللغتين، يتوجه إلى زميلي الكردي بالكردية، ولي، بالعربية. وبدت القاعة كأنها دار حفل مميز، يحتفي باللغات، ويُرحب بهذا التنوع والثراء المعرفي، الذي تخلقه اللغات المتعددة.

لم تقف اللغة بيني وبين الجمهور الكردي، بل شعرت أن صدقاً كبيراً كان يسري بيننا جميعاً، ولم يكن هناك أي تفسير سلبي أو نقاط سوداء قد تخلق سوء تفاهم، أو إحساساً بالضيق لدى أحد. لهذا يمكنني القول، إن الصدق والرغبة في التواصل والتعارف بين البشر، يمكنه أن يصل بأية لغة. دون أن أنكر الزلزلة الداخلية التي كانت تنتابني وأنا أرى شخوص روايتي، الذين تأثرت بهم وأنا طفلة في سنواتي الخمس تقريباً، يتحركون أمامي في الدانمارك، وألمانيا لاحقاً، وكأنهم كبروا مع تلك الطفلة، وقفزوا من بين السطور التخيلية، ليجلسوا جواري، نتناول الطعام ونشرب الشاي ونثرثر، وكأن الزمن الذي نحياه، ليس زمناً حقيقاً، بل زمن يجري داخل الكتاب.

بين "حبل سري" بالعربية، و"باني نافيكي" بالكرمانجية، والتي ترجمها سيامند بريم، يبدو الصدق الروائي هو المفتاح في العلاقة الناجحة مع الآخر، مهما كان حجم التشدد الذي قد يتخيله أحدنا، لدى جمهور لا يسامح.

كانت علاقتي بالجمهور الكردي، حبلاً سرياً جديداً صوب "نافيكيه" إبداعية. انتصار المخيلة والسرد على أي قلق يخلقه سوء الفهم المسبق بين البشر.

مها حسن

ليفانت - مها حسن

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!