الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الساحل السوري وتحولات مابعد الثورة
الساحل السوري

 كان ذاك اليوم كحلمٍ جميل بدأ للتو. لم نكن نحن لاعبو الورق والشطرنج في قريتنا الساحليّة البعيدة نطمح لأكثرَ من بيتٍ صغير في الريف، زوجة موظفة، وحياة يتخللها القليل من فترات الراحة، وقت كافٍ لنلعب ألعابنا المفضّلة، الورق، والشطرنج، والقليل من البينغ بونغ.


ليفانت _ تقرير مطول (رصد)


أدون عيسى و أليمار لاذقاني  


 كان ذاك اليوم كحلمٍ جميل بدأ للتو. لم نكن نحن لاعبو الورق والشطرنج في قريتنا الساحليّة البعيدة نطمح لأكثرَ من بيتٍ صغير في الريف، زوجة موظفة، وحياة يتخللها القليل من فترات الراحة، وقت كافٍ لنلعب ألعابنا المفضّلة، الورق، والشطرنج، والقليل من البينغ بونغ.


مجموعتنا المؤلفة من ستة أصدقاء، تشعر بنشوة طفيفة في الحياة إثر بعض الآراء التي كانت تجتاح جلساتنا كنسمة صيف باردة. كانت تلك الآراء تُحلّق بنا نحوَ إحساس بالتحرر من الفساد والطغيان.


كنّا ننتقد "النظام" و"حزب البعث الحاكم" على سبيل السخرية، ولم نكن نبدو كغرباء في قرية يعتمد معظم سكانها على وظائف حكوميّة مدنية  أو كمتطوعين في الجيش، بل كانت تلك الانتقادات أمرًا شائعاً تصل أغلب الأحيان لرأس النظام بشار الأسد، لكنّها تأخذ شكل المزاح، والمزاج العالي، كنتفيس عن مشاكل يوميّة بحتة.


ربما كان جميع السوريين يتواطؤون لخلق نمط محدد للمواطن الجيّد"المطيع" في سوريا، حيث تتخذ الدراما التلفزيونيّة موقع القاطرة التي تُحدد برشاقة معالم هذه الصورة للمجتمع السوري المرجو.

وتلقى بعض الأعمال الدراميّة إجماعاً وطنيّاً شاملا، كالموقف من الاستخبارات الداخليّة و قضايا تحرر المرأة والتشدد الديني، حيث سادت أجواء من التسامح في هذا البلد وجعلت من جروح الماضي ندوباً تحمل ذكريات مؤلمة، ولا تأخذ شكل الأحقاد السياسيّة والاجتماعيّة، لأنّ الجميع كان لديه الأمل؛ الأمل بغد ناصع. 


كان هذا الحلم جميلاً ومفاجئاً، حيث باغتنا عصر الخامس عشر من شهر آذار من عام 2011، خبر سريع على القنوات الإعلاميّة، " خروج مظاهرة في سوق الحميديّة بدمشق، تنادي بالحريّة"، بعد أن أخذت هذه القنوات موقعاً متقدماً من الاهتمام العام. سقط نظامان عربيان بطريقة درامتيكيّة سريعة أدت لانفتاح أجواء الحريّة في مصر وتونس.

جلم السوريون جميعا آنذاك بالحريّة والخلاص الأبدي من الاستخبارات، بدا ذلك اليوم كحلم جميل، ليت الزمن توقف عند ذلك اليوم، فقد احتفلنا مع الكثير من شبّان القريّة وسط تحفظ بعض رجالات النظام، يومها لم نلعب الطرنيب أو الشطرنج، يومها قضينا ليلة كاملة نستمع للأخبار، وننتظر دور الخبر الجميل؛ مظاهرة في سوق الحميديّة بدمشق تنادي بالحريّة. 


بعدها تعرضت أنا ورفيقي المعروفين في القرية كمعارضين، لمحاولات قتل، وتعرّض باقي الأصدقاء للعديد من المضايقات. كنا نحظى بشعبيّة واسعة في القريّة، وفوجئنا بأنّ بعض الشباب يخططون للهجوم على منزلنا ليلاً، كما فوجئنا ببعض الشبّان الآخرين يدافعون عنّا واضعين أنفسهم في موقف ضعيف أمام هجمةٍ غريزيّة قادها النظام ضد المعارضين.

ومع استمرار النظام، وتكشّف مفاصل القوة لديه يومًا بعد يوم، بدأت تشتعل في أذهاننا الأسئلة الكبرى، والمفارقات الكبرى، و التي ما فتئنا نحاول الإجابة عن بعضها، أو تفسير بعض السلوكيّات التي قام بها أهل الساحل. 


ومن أهم هذه الأسئلة كيف استطاع النظام وعبر قنوات غير مباشرة، أن يدفع الموالين(موظفين، عسكريين، مدنيين) للتواطؤ معه في كذبة كبيرة، راح ضحيتها أكثر من مليون قتيل من كل الأطراف، ليومنا هذا مازال هذا السؤال يحيّر الجميع، وغيره من الأسئلة الكبرى، التي سنطرحها تباعًا في هذا المقال ومقالات لاحقة لنحاول الإجابة عليها. لقد بقي الساحل السوري، "نقطة عمياء" بالنسبة للعالم ولأغلب السوريين، يريح الجميع توصيف السكان بمواصفات عامة وفضفاضة، ليهدأ السؤال؛ السؤال الذي نحاول إثارته. 


سنلقي الضوء على الوضع الاقتصادي والمعيشي قبل بدء الثورة، و سنتتبعه خلالها، سنحاول رسم صورة العلاقة بين النظام وأهل الساحل في هاتين الفترتين أيضاً، لنقترب أكثر من هذه المفارقات التي تلوي عنق السوريين الأحرار ليومنا هذا.  


تحولات اقتصاد الساحل 


العديد من التحولات الاقتصاديّة العميقة أصابت نظام الأسد بعد الثورة السوريّة، من أهمها مستوى المعيشة في المناطق التي لم تشهد حروباً وتدميراً للبنى التحتيّة. عمل نظام الأسدين على بناء منظومة فساد موازية للاقتصاد القائم، أعانته في كسب العديد من الموالين في الفترات السابقة، إلّا أنها في هذه الأيام أصبحت عائقاً حقيقيّاً أمام رفع مستوى معيشة السكان لتخطي حواجز المجاعة والفقر المدقع، وتهدد منظومة الفساد النظام برمّته إن أصابها أي خلل، وربما المعركة الاقتصاديّة للنظام ستستعر بعد انتهاء الحرب وسيبدأ نظام الأسد بأخذ خياراته حول شكل النظام الاقتصادي الذي سيقوم عليه، فهناك مشاكل مستعصيّة لن تنتظر كثيرًا أي نظام حكم قادم. 


عمل بشار الأسد منذ توليه السلطة حزيران /عام 2000/ على تحسين الجانب المعيشي للسوريين، حيث بدأ مستوى المعيشة بالتحسّن بشكل طفيف وبطيء منذ توليه وحتى نشوب الثورة السوريّة، حيث قلبت كل موازين النظام والحيثيات التي كان يقوم عليها ويكتسب منها الشرعيّة ومن أهمها مستوى الدخل. لقد كانت نقطة ارتكاز بشار الاسد ونظامه على ترسيخ النظام الأمني الموروث عن أبيه، أو أنّه يشكّل أحد أهم الدعائم بأقل تقدير.


الزيادات المتتالية على رواتب الموظفين، يتم الإعلان عنها "كمنحة من الرئيس أو أعطية أو مكرمة"، بحيث بات موالوه يرون فيه الأمل الواعد لتحسين مستواهم المعيشي بشكل مستمر، ولنقلهم للطبقة الوسطى من خلال زيادات الرواتب، وفتح سوق السيارات والعقارات، حيث بدأ الاعتماد على الدخل الشهري ليتعدّى مصاريف الطعام والسكن والتدفئة للعائلة، ليستطيع الموظف الحكومي في حال اعتماده على مصدر دخل ثاني  ليقسّط سيارة، أو يشتري بيتاً في إحدى المدن الساحليّة التي شهدت حركةً عمرانيّة لافتة منذ مطلع الألفية الثالثة وحتى نهاية عقدها الأول.


سنحاول مقاربة الوضع المعيشي لعموم الشرائح في الساحل السوري، مقارنةً بما كانت عليه قبل الثورة السوريًة، محاولين التوصل للحالة المعيشية لأهالي الساحل ومدى تقبّلهم للحالة الاقتصادية الناتجة بعد الثورة السوريّة، وقدرة النظام على الاستمرار بهذا النهج الاقتصادي، ومدى حاجته لخلق نمط اقتصادي يجنّبه ثورة جياع هذه المرّة بعد انتفاضة الحريّة والكرامة التي شهدتها البلاد منذ مطلع عام 2011.  


مصادر الدخل 


قام النظام منذ ثمانينيات القرن الماضي بالعمل الدؤوب على تعزيز ارتباط دخل الفرد بهيئاته ومؤسساته بشكل مباشر، من خلال التوظيف الحكومي والخدمي والصناعي في القطاعات العامة، وعمل على محاربة المشاريع التنمويّة المستقلة، واستهدافها بشكل مباشر من خلال حاجز الموافقات الأمنيّة التي كانت تحول دون أيّة مبادرات اقتصاديّة على مستوى الافراد. أدت هذه السياسة إلى ربط نسبة ضخمة من الناس بالراتب الحكومي أو ما يسمى الوظيفة، والتي تطلق اصطلاحاً على أي عقد عمل دائم مع أي مؤسسة تابعة للدولة، حيث قفزت عن السبعين بالمئة في الساحل السوري تتضمن عقود التطوع العسكري، ما جعل الدورة الاقتصاديّة مرتبطة بشكل وطيد مع الراتب الشهري الذي يتقاضاه الموظف.


بنظرة سريعة لمتوسط دخل الموظف في الفترة التي سبقت نشوب الثورة السوريّة، فقد كان متوسط الدخل الشهري لموظف درجة أولى بعد خمس سنوات من وظيفته 17000 ليرة سورية تقريبا  اي ما يزيد عن 300 دولاراً قليلاً، وقس نزولاً حتى الفئة الرابعة في التوظيف، ويصل إلى (25000 ل.س) 500  دولاراً كحدٍّ وسطيٍّ للموظف الحكومي، ونجد في حالات كثيرة تضاعف هذا الرقم من خلال الحوافز المالية لقطاعات النفط والكهرباء والقطاعات الإنتاجيّة.

كما كانت مداخيل الحرفيين والمزارعين تحقّق ارتفاعاً ضمن هذه الدائرة، التي كانت تشمل أغلبيّة سكّان الساحل السوري، حيث التطوع في الجيش ينتظر أولئك الذين لا يملكون أراضٍ زراعيّة مرويّة، ولم يحظوا بوظائف في القطاع العام، إذ  لا سبيل أمامهم سوى ذلك أو خيار الفقر المدقع. 


منذ بداية الثورة السوريّة، بدأت العملة المحليّة بالانهيار تدريجيّاً أمام الدولار ليصل سعر صرف الدولار الواحد إلى 500 ل.س، حيث كان يتراوح بين 45 إلى 50 ل.س قبل الثورة السوريّة، وشهد بعد عام 2014 تذبذبات بسيطة، إلا أنه وصل لما يشبه الاستقرار على سعر الصرف الحالي 500 ل.س للدولار الواحد، في حين لم تشهد الرواتب الحكوميّة هذه الزيادات.


إذن يمكننا الحديث عن أزمة معيشيّة يعيشها السكان تنحدر لمستويات خطيرة في كثير من الحالات في الساحل، تتخلّلها الأزمات النفسيّة الاجتماعيّة، التي تراكمت عبر سنوات الحرب الطويلة، والتي كان عامل فقد الأبناء عاملاً سلبيّاً فيها للغاية، أسهم _وحسب أطباء مختصيّن_ بازدياد المشاكل الصحيّة لدى عامة الناس، وأثّرت الفوضى الغذائيّة وغياب الرقابة بشكل كامل على نوعيّة وصلاحيّة الأغذية المستوردة، لتشكّل مع هذا العامل سبباً رئيساً في تضاعف الوفيات الناجمة عن أمراض السرطان وأمراض القلب، ما أسهم بشكل كبير في انخفاض متوسط الأعمار في البيئة الساحليّة، كعامل موازٍ للضحايا الكثيرة التي شهدتها فئة الشباب المقاتلين مع النظام، لانخفاض متوسط الأعمار وإصابة المجتمع بانتكاسات متلاحقة، تتمحور حول النّقص الشديد في اليد المنتجة، مترافقةً مع أزماتٍ نفسيّة أضفت جوّاً من الاكتئاب والإحباط العام،  يكاد يكون عاماً على أهالي الساحل السوري. 


الفساد كمصدر للدخل 


 غض النظام الطرف عن تجاوزات الفساد التي تتدرج بحسب المناصب، إذ كان النظام يغدق مبالغ ماليّة ضخمة لمؤسساته دون رقابة جيّدة، سامحاً بنمو نظام فساد دقيق يضيف دخلاً من الصعب تحديده على الموظف الحكومي، وتختلف مستويات الفساد الماليّة تبعاً للمنصب والقطاع الذي تعاقد معه الموظف.


كانت قوى الأمن هي الأكثر تربحًا من الفساد العام، وكان عناصر الأمن عبارة عن جامعي "ضرائب" غير رسميّة مقابل الرضا، عدا عن أولئك الذين نظّموا عمليات تجارة فاسدة قائمة على التهريب بشكل منظم وكبير عبر عقود من الزمن، وصلت لعقود بين ضبّاط الأمن وشركات مدعومة من الدول المجاورة، أهمّها تركيا ولبنان، وصولاً للرشاوى البسيطة التي يتقاضاها موظفو القطاعات الخدميّة ومرؤوسيهم، وعناصر الشرطة الجنائيّة والمروريّة، والحال لا يختلف كثيراً في الجيش النظامي، حيث تعمّ السرقات والمحسوبيّات والفساد، التي شجّعها نظام النظام الحاكم عبر نصف قرن من الحكم. 


أرقام تكاليف المعيشة والمصاريف اللازمة توحي أنّ معظم السكان المحليين دخلوا في خط الفقر، إذ أنّه لا يكفي لأجرة بيت، وفواتير الكهرباء والتدفئة، والهاتف، والخبز ،والقليل من الخضار والحبوب شهريّاً، إلّا أننا إذا أخذنا بعين الاعتبار اقتصاد الفساد الموازي سنجد أنّ المداخيل ستقارب المئة ألف ليرة بشكلٍ وسطي لبعض شرائح المجتمع، وحتى هذا غير كافٍ حسب أرقام حكومية رصدت حاجة العائلة الشهرية بما يقارب ٢٧٥ ألف ليرة، وهذا يعطينا انطباعاً مرضيّاً عن كيفيّة الحياة اليوميّة لأهالي الساحل. إذ إن معدل الدخل هذا ينقل البعض فوق خط الفقر بقليل، لكن هذا الأمر لا ينطبق على الأغلبيّة، فمنظومة الاقتصاد الموازي (الفساد المنظم) لا تغطي الجميع، فهناك من لم  يتورط  في رشاوى أو سرقات أو أعمال ميليشياوية من سرقة"تعفيش" وخطف بقصد الفدية، لتزيد النسبة قليلاً في المدن حيث الحرف اليدويّة والتجارة، والعمل في القطاع الخاص، شهد تدنيّاً مماثلاً للمداخيل الشهريّة. 


لقد أفرز نظام الأسد اقتصاداً موازياً، قائم على شبكاتٍ من الفساد بمختلف أنواعها، تورّط فيها قسم كبير من الناس ضمن مستويات مختلفة، تدرّ عليهم مصادر في الدّخل متباينة من حيث الحجم، قد تصل لحدود الراتب الشهري للموظف، أو تزيده بأضعاف مضاعفة في حالاتٍ أخرى، إلا أنّه هناك من لا يدخل في منظومة الفساد الموازية ليلقى مصير الفقر المدقع مع عائلته. 


مع بداية الثورة السوريّة وإلى أيامنا هذه، بقيت منظومة الفساد أو الاقتصاد الموازي تعمل، بل ازدادت وتيرة الفساد مع أزمات الطاقة وتراجع مؤسسات الدولة المدنيّة والقانون المدني أمام سطوة الجيش وقوى الأمن وعناصر الميليشيات، كما قام نظام الأسد بتوظيف أعدادٍ هائلة من ذوي قتلاه في الدوائر الحكوميّة ليصل معظمها لحالة الاكتظاظ دون وجود أعمال لمعظم الموظفين، ما أفرز نوعين من المستفيدين من نظام الفساد القائم، النوع الأول وهم الأشخاص الذين يضيفون مداخيل تشبه مداخيلهم الرسمية أو الشرعيّة، والأشخاص الذين أضافوا أرقام كبيرة لمداخيلهم، وهؤلاء من يسمونهم السكان المحليين "تجّار الازمة" ، حيث استفاد هؤلاء من اتساع دائرة الفساد بعد الثورة، ليضعوا أسماءهم مع المستفيدين الكبار من نظم الفساد القائمة. 


الأسعار والخدمات 


وفي سوريا عموماً والساحل خصوصاً، عندما يستطيع الدخل الشهري تأمين السكن والغذاء وبضعة مصاريف تتعلق بالسفر والملبس، فهذا يعني أن الدّخل الشهري يؤدّي غرضه بالكامل، وهذا ما لايحدث غالباً، و إذا حدث فليس إلا في حدود الأساسيات وما يلزم. وما زال شراء سيارة فعلٌ ينظر له على أنه من الكماليّات، فالحسّ العام عند الناس مقتنع تماماً أن السيارة وسيلة ترفيه.


ما تبقّى من المصاريف، فإنّ القطاعات العامة المجانيّة أو شبه المجانيّة تؤدّي الغرض. فما زال التعليم الرسمي المجاني يغطي جميع الطلبة، كما أنّ الجامعات الرسميّة تغطي كافة الخريجين إضافة للمشافي الضخمة والتي تستوعب أعداداً هائلة من المرضى، أهمّها في الساحل السوري مشفى تشرين الجامعي الذي يستوعب قرابة العشرة آلاف سرير، ويعد من أضخم المشافي في الشرق الأوسط، إلا أنّ خدمات التعليم والصحة /العامة، المجانيّة/ شهدت تأرجحاتٍ تتعلق بمستوى الخدمة المقدّمة للناس، فقد كانت تترنح بين الجيّدة والمتوسطة قبل الثورة السوريّة، وفي حين شهد قطاع الصحّة تطوراً ملحوظاً يبدأ من قدرته على استيعاب النازحين إلى جانب أهالي المنطقة، وينتهي بالقيام بعمليّات القلب المفتوح، وعمليّات الجراحة العصبيّة، ومعظم الأعمال الطبيّة المعقّدة والطويلة، إلى جانب كافة خدمات الطبابة، لا تنقصها الأدوية بما فيها الجرعات الكيماويّة، والعلاج بأشعة الكوبالت، حيث يعفى العسكريّون وذوي الضحايا والموظّفون من كافة الرسوم، فيما يترتّب على البقيّة دفع أجور رمزيّة، إلاّ أنّ خدمات التعليم بشتى أقسامها شهدت تراجعاً ملحوظا.


في المستوى الذي تقدّمه، من حيث مستوى التعليم الرسمي، فقد ترهّلت الجامعات الرسميّة وساد فيها الفساد بشكل واسع على حساب المستوى الأكاديمي، كما تراجع ترتيب الجامعات السوريّة بشكل ملحوظ لمستويات متدنيّة للغاية، و ساد الفساد الإداري والتعليمي في المدارس الأساسيّة والثانويّة، ما يلزم الأهالي أغلب الأحيان إعطاء الطلّاب دروساً خاصة، ما يجعل المدرسة الحكوميّة مفرّغة بشكل كبير من محتواها العلمي، ويرتّب على الأهالي مصاريف التعليم الأساسي والثانوي. 


أما فيما يخص أسعار الأغذيّة، فقد تضاعف سعر ربطة الخبز/كيلوغرام من الخبز/ ثلاثة أضعاف (15 ل.س إلى 50 ل.س)، و في كثير من الأحيان تشهد أزمات في تغطية حاجة السوق، و جدير بالذكر أن قطاع الأفران مازال قطاعاً عاماً أو قطاعاً مشتركاً، تلتزم هيئات التموين بتزويد الأفران بحصص موزعة من الطحين والمازوت، ويعد الخبز السلعة الوحيدة التي ماتزال تلقى دعماً حكوميّاً، وتشير دراسات على أن تحرير السعر قد يعيد مضاعفة سعر ربطة الخبز ثلاث مرات أخرى، كما أننا لا نستطيع إغفال الأهميّة الاستراتيجيّة للخبز عند النظام لما يشكّله من غذاء رئيسي عند السوريين عامةً، ولربط الأمن الغذائي للسكان بهذه السلعة بالتحديد. 


كما شهدت الخضار والفواكه ازدياداً قارب العشرة أضعاف لمعظمها، (متوسط سعر كيلو الخضار 15 ل.س إلى 150 ل.س) (متوسط سعر الفاكهة 25 ل.س إلى 300ل.س)، إلا أننا لا نستطيع إحكام هذه الزيادة بشكل مضبوط لما تشهده هذه المواد من تأرجحات كبيرة في السعر على مدار العام. 


كما شهدت أسعار العقارات والسيارات ومجمل الأدوات الكهربائيّة والصناعيّة المحليّة والمستوردة ما يقارب العشرة أضعاف أو أكثر، بالإضافة إلى انكماش كبير في هذه الأسواق الناجم عن تدني مستوى المعيشة. 


عانى الأهالي في الساحل السوري من الانقطاع المتواصل لمصادر الطاقة، علماً أنّ أسعارها محرّرة بالكامل، وقد شهدت ارتفاعاً مماثلاً لبقيّة السلع في السوق، وهذا ما يسبب في الكثير من الأحيان أعباءً إضافيّة على الأهالي والحرفيين. 


الشباب، الخاسر الأكبر 


     قام النظام بداية العام الجاري بتسريح ثلاث دفعات من المجنّدين الإجباريين، بعد أن قضوا ثماني سنين من الحرب من ربيع شبابهم، فقد معظمهم الطموح في الحياة وعاد معظمهم محمّلين بالعديد من المشاكل النفسيّة القابعة في نفوسهم، إثر سنوات الحرب، هذا بالإضافة لصعوبة تكيّفهم مع الحياة المدنيّة، ومشاكل الحصول على عمل يكفيهم مصاريفهم الشخصيّة. وتأتي تعقيدات السكن لتزيد همومهم، وتضاف إليها جملة من الأعباء التي تنتظرهم بعد تسريحهم من الجيش. إضافةً لخسارة الراتب الشهري، الذي كانوا يتقاضونه أثناء خدمتهم الاحتياطيّة (يعتبر المجند احتياطاً بعد إكماله سنة الخدمة الإلزاميّة ويتقاضى راتباً يعادل ذلك الذي يتقاضاه المتطوع)، فبعضهم خسر امتيازات كان يحوزها من خدمته العسكريّة ضمن منظومة الفساد القائمة في جيش الأسد أو راتبه بحد ذاته، وهذا ماقد يدفع البعض منهم للقيام بأعمال سرقة ونهب، بدأت تظهر أولى معالمها في أحداث متفرقة قام بها القادمون من الميلشيات المقاتلة مع نظام الأسد بعد تركهم القتال، ما يضيف عبئًا ثقيلا على أهالي الساحل من فقدان الحس العام بالأمان إلى تفاقم الأزمات الاجتماعيّة. 


العقارات تناطح الأرقام المستحيلة  


      تضاعفت أسعار العقارات (إيجار وشراء) أكثر من عشرة أضعاف، وأصبحت القروض العقاريّة وقروض الإكساء التي يمنحها البنك المركزي حلم غالبية الناس في الساحل، فقرض الشراء من البنك العقاري الذي يستلزم كفلاء إن وجد! والذي يبلغ خمسة ملايين بالكاد يكفي لشراء شقة صغيرة في ضواحٍ نائية، يبلغ قسطه الشهري 70000 ل.س في أحسن الأحوال (تقسيط ل 15 عاماً)، وهذا ما يجعل من الصعب جداً على الموظفين والحرفيين وصغار الكسبة الإيفاء به. كما أن هذا المنزل مازال بحاجة للإكساء الذي يكلّف في أدنى الحالات 3000000  ثلاثة ملايين ليرة؛ الأمر الذي يجعل من الحصول على منزل جديد بالنسبة لمعظم سكان الساحل أمراً مستحيلاً، ما خلق أزمة زواج وأزمات كساد عقاري، يتراكم معها بطالة العاملين في حرف البناء، وكساداً في التجارة المتعلقة بمواد البناء.  


يعمل النظام على الإبقاء على منظومة الفساد التي تحميه، وتؤمن له موالين انتهازيين يعتقدون أنهم يتحصّلون على أكثر من حقوقهم وينعمون بمصادر دخل إضافيّة. كما يعمل النظام على تأمين الحد الأدنى من الأغذية، والحد الأدنى من خدمات القطاع العام التي أصبحت في كثير من الحالات مفرغة من خدماتها، بالمقابل فسوريا ترسو على ثروات طائلة، الباطنيّة والزراعيّة والبشريّة، تخولها لأن تصبح في مصاف الدول الغنيّة، إلا أننا ما زلنا نتحدث عن شرائح تعاني الفقر الشديد وشرائح تقبع على حافة الفقر، وأزمات متلاحقة ومتراكبة قد تقلب المعادلة على النظام في ثورة جياع قادمة ربما لا تطول مفاعيلها للظهور، خاصّة بعد تلمّس الشارع لحجم الخسارات التي لقيها وسيلقاها في الفترات القليلة القادمة. 


تحولات العلاقة السياسيّة بين النظام والشرائح الاجتماعيّة في الساحل السوري 


لابد لنا أولاً أن نُحدد معالم العلاقة السياسيّة التي تنشأ بين مجموعة ما وبين النظام الأمني، فالنظام السوري يستند في عمق العلاقة مع الآخر/ الفرد ـ البيئةــ الطائفةـ ...إلخ/ على العنصر الأمني، هذا العنصر "الذي يشكل جوهر نظام الأسد" غير خاضع لقوانين وطنيّة أو دستوريّة. فأفرع الأمن كانت وماتزال منذ قيام النظام إلى الآن هيئات فوق القانون، تعمل وفق معايير خاصة تضع ثبات النظام القائم ضمن أهم أولوياتها.


وتشكل الأفرع الأمنيّة وشكل العلاقة معها، جوهر علاقة الفرد مع النظام، النظام الذي ابتلع الدولة، أي شكل العلاقة بين الدولة والفرد، هذه العلاقة التي تبدأ بـ الاختطاف والتغييب القسري والقتل وتنتهي بتراخيص العمل وأدق تفاصيل الحياة اليوميّة، إذ امتلك ويمتلك نظام الأسد جيشاً من العناصر الأمنيّة ينتمون لمختلف أفرع والتي تعمل جميعها بصلاحيات مطلقة ومتداخلة جداً ويسبرون في كافة مناحي الحياة في سوريا، وهي أفرع الأمن العسكري، أفرع الأمن السياسي، أفرع أمن الدولة، أفرع المخابرات الجويّة، وأفرع الأمن القومي، وهذه الأفرع هي المسؤولة عن رسم السياسات الداخليّة وهي التي ترسم العلاقة مع الفرد في كل بيت سوري كما أسلفنا سابقاً. 


عَمد نظام البعث الحاكم بقيادة "حافظ الأسد" ومن بعده ابنه  على التعاطي سياسيّاً مع السوريين وفق هويتهم الطائفيّة، ووفق انتمائهم المناطقي، وأيضاً وفق مستوى الدخل وانتماءاتهم القوميّة والعشائريّة. حيث تتبدل السياسيات من منطقة لأخرى، ويتغيّر وجه السلطة من بيئة لأخرى، معتمداً بذلك على جهازه الاستخباري وقوى الأمن وهيئاته الرسميّة لرسم سياسات النظام تجاه كل منطقة وكل ديانة أو طائفة، ولابدّ هنا من التشديد على أن تقريرنا هذا يخصّ الساحل السوري، وعلاقة النظام مع مختلف الشرائح السياسيّة في الساحل، إذ تختلف علاقته مع السنّة على سبيل المثال في العاصمة دمشق عن العلاقة مهم في الساحل السوري، ونجد اختلافًا في العلاقة مع  سنّة طرطوس وسنّة مدينة بانياس أيضاً. وفي حين لا يفرّق النظام بين طبقات التجار والأغنياء في الساحل، إلّا أنّه في مناطق أخرى قام بتقسيم السنة لطبقات اقتصاديّة وانتماءات عشائريّة ومناطقيّة ليتعامل مع كل شريحة بشكل مختلف تماماً عن الشريحة الأخرى. 


بالنسبة للساحل السوري سنقوم بتفنيد العلاقة بين النظام ومختلف الشرائح حسب الانتماء الطائفي والمناطقي والديني والسياسي كلّ على حدى. وسنلقي الضوء على أهم التحولات في هذه العلاقة إبّان الثورة السوريّة. 


ــــــــ العلاقة مع العلويين : 


يقسّم العلويون إلى أربع عشائر رئيسيّة هم: الحدادين، الخياطين، المتاولة والكلبيين، وتتفرع عن هذه العشائر الأربعة إثنان وثلاثون عشيرة، كما انسلخ المراشدة عن العلويين مطلع القرن الفائت وأدت حركة تنويريّة لأحد المشايخ العلويين في خمسينيّات القرن الفائت لنشوء عشيرة جديدة هم الحيدريّون. جميع هذه العشائر باطنيّة تقبل بقانون الاحوال الشخصية و المحكمة الشرعية في معاملات الزواج والإرث وتخفي عقيدتها الخاصة بها. 


عمل الأسد الأب منذ وصوله للسلطة على ترسيخ الانقسامات العشائريّة، والعمل على تقوية الخلافات بينها، كما وزع السلطة الأمنيّة بينها وأطلق الصلاحيات لها ليشتعل التنافس بين الأفرع الأمنيّة للحصول على السلطة مقابل إظهار الولاء، لكنّ اعتماد الأسد الرئيسي كان على المتاولة، وعلى رأسهم رئيس شعبة الأمن العسكري السابق علي دوبا، حيث أمسك المتاولة بهذا الجهاز الأمني، وأمسك الخياطون جهاز الأمن السياسي، والحدادون جهاز المخابرات الجويّة، وترك للكلبيين وهم عشيرة الأسد التغلغل في كافة هذه الأفرع. 


أما بالنسبة لعناصر هذه الأجهزة يشكل العلويون من جسمها نسبة جيدة عموماً و كبيرة في توزع الرتب العليا. حيث تتلاشى الانتماءات العشائريّة في صفوف العناصر الذين لا يحملون رتب ضبّاط عاليّة، ليبقى الانتماء الطائفي العلوي هو الأهم، وقد أرخت هذه الحالة ظلالها على البيئة العلويّة، حيث تلاشت العلاقات الاجتماعيّة القديمة، ليحل محلها علاقات قائمة على النفوذ في جهاز السلطة، والتنافس للحصول على هذا النفوذ أو التملق من النافذين، كما شلّت حركة البيئة العلويّة وجعلتها أداةً مطواعة بيد سلطة الأسد الأب ومن بعده الابن، الأمر الذي جعل السلطة تأخذ وضعيّة القداسة عند شريحة لا بأس بها من العلويين، ساعد في ذلك رجال الدين الذين تواطؤا مع النظام لدعم حافظ الأسد وابنه بشار الأسد في المحافل العلويّة والدعاء لهم في المناسبات الدينيّة، مما سهّل على النظام إبّان الثورة السوريّة سوق العلويين نحو القتال معه في كافة الظروف، بل وأخذ المبادرة لتصفية المعارضين العلويين في بيئاتهم دون تدخل مباشر من السلطة، ساعد في ذلك ترهيب النظام للعلويين من الثورة السوريّة ووضعهم معه في موضع الدفاع عن النفس، وتهويل فكرة الإبادة الجماعيّة التي قد يتعرض لها العلويين إذا ما نجحت الثورة، بعدما قاموا بنشر حواجز أمنيّة في كل قريّة علويّة مع بدء الثورة، الحواجز التي أزيلت بعد أقل من عام. 


مع تقدّم الأحداث في الثورة واحتدام المعارك العسكريّة، وبدء توافد الضحايا للقرى والبلدات العلويّة، بدأت انعطافة كبرى في العلاقة بين العلويين والنظام، وبدأت قداسة النظام تنهار في أذهان العلويين بشكل تدريجي، حيث فقد العلويون قرابة المئة ألف ضحيّة لحد الآن، كما ساهمت الدول النافذة في النظام في إضعاف شعبيّة الأسد بعدما أحسّ العلويون أن الإيرانيين والروس يمسكون بزمام الحكم في سوريا، خاصّة بعد التحكّم الكامل للضباط الروس بجيش النظام، وما أسهم بغياب هيبة الدولة لدى العلويين أيضاً الفقر الشديد وارتفاع الأسعار، وضعف الرواتب الحكوميّة التي دفعت العلويين للبحث عن مصادر دخل مستقلّة. 


جميع هذه العوامل أسهمت في انهيار شكل العلاقة الأبويّة بين النظام والعلويين، لكننا لا نستطيع قياس الولاء السياسي للعلويين بشكل دقيق ، فهذا يحتاج لدراسة قائمة بحد ذاتها قد تنجح في الوصول لمقاربة تقريبيّة، لكننا نستطيع القول أن عامل الترهيب والخوف هو الناظم الوحيد للعلاقة الآن والذي يخلق شكل من التوازن غير المستقر. 


يذكر أن تنظيمات سياسيّة معارضة نشأت ضمن البيئات العلويّة جميعها تحمل ميولاً يساريّة تم قمعها بالكامل، سنقوم بدراستها في فقرة لاحقة. 


ـــــ العلاقة مع المسيحيين / الاسماعيليين 


تنتشر تجمعات صغيرة من المسيحيين في أغلب مدن الساحل وفي بعض البلدات، وينتمون لأغلب الطوائف المسيحيّة/ روم أرثوذوكس، روم كاثوليك، مارون/ ويرتبط المزاج المسيحي العام بالغرب، حيث يتعامل معظم المسيحيين مع وطنهم الأم سوريا كحالة مؤقتة، وذلك لارتباطهم الديني القوي بالمسيحيّة الغربيّة، والإحساس بالضعف الشديد لقلّة أعدادهم. حاول النظام منذ نشأته طمأنة المسيحيين وتقريبهم منه عبر السماح للكنائس بالنفوذ والدعم داخل التجمعات المسيحيّة، كما تدخّل أمنيّاً داخل هذه التجمعات بشكل طفيف وعند الضرورة القصوى، وبحذر شديد، مع تقديم الكثير من الدعم السياسي للمسيحيين الموالين والمرتبطين بالنظام. 


تاريخيًّا، انخرط معظم المسيحيين في الساحل السوري بالحزب القومي السوري، الذي انضّم لتحالف الأحزاب المنضوية تحت راية حزب البعث الحاكم تحت مسمى الجبهة الوطنيّة التقدميّة، وإبّان الثورة السوريّة، أحسّ معظم المسيحيين بالخطر الشديد من الإسلام السياسي الأمر الذي دفع به النظام للواجهة في خطابه الموجه لهم، إلّا أن العديد من المعارضين المسيحيين قالوا كلمتهم وأبرزوا انتماءهم السوري، وتعرضوا للملاحقة والاعتقال والتعذيب والقتل كغيرهم من المعارضين.


كما انخرط الكثير من الشبّان المسيحيين في القتال مع النظام، وتعرض جزء منهم للقتل جراء المعارك الدائرة، إلا أن أعداد المقاتلين كانت قليلة وأعداد القتلى كانوا أقل بكثير لسببين الأول فرار معظم الشبّان المسيحيين للخارج، والثاني هو عدم وضع المقاتلين المسيحيين في الجبهات الساخنة وعلى خطوط التماس خوفاً من ازدياد عد القتلى في صفوفهم. 


كما ينتشر الاسماعيليون في بلدتين ساحليتين وفي مدينة السلميّة التي تقع في الداخل السوري، وتعرضوا للكثير من الاضطهاد من النظام منذ نشأته، واتخذ الاسماعيليون  موقفًا واضحًا من الثورة، حيث انطلقت مظاهرات تنادي بإسقاط النظام منذ بداية الثورة في السلميّة ولم يستطع الاسماعيليون المنتشرون في البلدات الساحليّة خلق حالة موازيّة لقلّة أعدادهم وخوفهم من المحيط العلوي الذي يحاصرهم من كافة الجهات. 


ـــــــ العلاقة مع السنّة  


لم يستطع النظام عبر سنوات حكمه الطويلة التوصل لإقناع الغالبية السنيّة العظمى بشرعيته، وشهدت ثمانينات القرن الفائت أول صدام فعلي مع النظام، بعد تمرّد الإخوان المسلمين المسلّح الذي شهد قمعاً وحشيّاً من جيش الأسد، ومن فرقة سرايا الدفاع تحت قيادة رفعت الأسد عمّ بشار الأسد، جرى بعدها العديد من موجات الأخذ والرد بين السنّة ونظام الأسد، حيث استمرّت حملات الاعتقال بين الحين والآخر.


اعتمد النظام خلال سنوات حربه المديدة مع الإخوان المسلمين، وحربه على الأغلبيّة السنيّة على دعم التشدد الديني من خلال خطابه الديني(اعتمدت المناهج التربويّة المذهب الوهابي الذي يعد منبع الجهاديّة الإسلاميّة)، ومحاربته أمنيّاً(اعتمد النظام على أفرعه الأمنيّة لمداهمة واعتقال الخلايا التنظيميّة لأي تنظيم سياسي معارض من البيئات السنيّة متهماً إياهم بالجهاديّة.)، متسلحاً بتهم الإرهاب التي تلاقي رواجاً عالميّاً.


كما عمل على تفتيت البيئة السنيّة السوريّة، من خلال تعاملاته المختلفة مع الأغنياء والفقراء، وأبناء الريف والمدينة، والبعثيين وغير المنتمين لحزب البعث، وذوي المتهمين للإخوان المسلمين، لكنّه لم يستطع اختراق البيئة السنيّة التي تفاقمت فيها التقيّة السياسيّة/ أو التظاهر بالولاء السياسي وإخفاء الكره الضمني للنظام/ ، هذه التقيّة التي لم تنتج تمرّداً واعياً بل كرهاً مطلقاً لنظام الأسد وهيئاته الامنيّة التي مارست جميع أنواع القمع على أبناء الطائفة السنيّة، الأمر الذي جعل من هذه البيئات مكان خصبًا لنشوب حرائق الثورة السوريّة التي انفجرت مرّة واحدة، وكانت بانياس المدينة الساحليّة من أولى المدن التي تحيّن أبناؤها الفرصة للخروج بمظاهرات تطالب بأسقاط نظام الأسد.


كما تبعتها أحياء السنة في اللاذقيّة، حيث قام النظام بقمع هذه الاحتجاجات بشكل عنيف كباقي المناطق الثائرة، وكردة فعل على هذه الاحتجاجات قامت ميليشيات الدفاع الوطني المقاتلة مع النظام وبقيادة هلال الأسد ابن عم بشار الأسد بمجزرة البيضا /قرية من أبناء الطائفة السنيّة قرب بانياس/ راح ضحيتها معظم أبناء القرية حيث خرج منها القليل من الناجين(قرابة الألفي ضحيّة بحسب منظمات حقوقيّة)، هذا الانتقام الهمجي والصمت العالمي إزاءه ذكّر سنّة الساحل بمجزرة حماه في ثمانينات القرن الفائت والتي انتهت بانتصار الوحشيّة على التمرّد، انتهت بعد مجزرة البيضا كل أشكال الاحتجاجات في الساحل السوري، إلّا أن شرعيّة الأسد في أذهان السنّة ماتزال سراباً يحاول النظام اقتفاء أثره. 


ــــــــ العلاقة مع المعارضة   


باستثناء الإخوان المسلمين التنظيم الإسلامي السياسي المعارض الذي تكلمنا عنه سابقاً، كانت معارضات النظام شيوعيّة أو تحمل طابعاً يساريّاً، ينتمي قسم جيد من أفرادها للأقليّات تعرضت لحملات اعتقال مطلع ثمانينات القرن الفائت، وتعرض معظم أعضاء هذه الأحزاب للملاحقة والاعتقال، عجزت بعدها هذه الأحزاب عن تنظيم صفوفها، مع استمرار حملات الاعتقال والرقابة الأمنية اللصيقة.


بعد نشوب الثورة حاولت بعض هذه الأحزاب مجاراة الأحداث بينما توقف بعضها الآخر متفرجاً، فيما اتخذت بعض تلك الأحزاب مواقف مؤيّدة لنظام الأسد، وما يزال نظام الأسد يفرض رقابته الأمنيّة الشديدة على هذه الأحزاب لمنعها من تنظيم صفوفها، و لمنعها من تكوين قواعد شعبيّة، كما يستمر باعتقال قيادات في هذه الأحزاب إلى أيامنا هذه.


الساحل السوري وتحولات مابعد الثورة


الساحل السوري وتحولات مابعد الثورة

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!