-
الثورات العربية الحتمية التاريخية والمؤامرة الصهيونية
(قراءة في علم اجتماع الثورة)
كنت أحلم في الصغر أن أصبح يوماً من المثقفين، وبعد اندلاع الثورات العربية حمدت الله الذي أنقذني من هذا العار، فلم أدخل في هذا السيرك مع الراقصين الذين يقفون على أبواب سفارات إيران وسوريا، يتناولون العشاء على موائد العهر ثم يخرجون عليك في الصباح يكتبون المعلّقات عن المؤامرة.
حين تفجرت الثورات العربية وانطلقت ثورة الشام على وجه الخصوص، ورأيت القطيع من فيالق الكتّاب والمنظرين والمحللين يتسابقون على الفضائيات، ليتهموا كل طفل يتيم يحلم بكسرة خبز أنه عميل تحركه الصهيونية والإمبريالية والماسونية، حينها أدركت أن الثقافة عار وفهمت معنى عبارة لينين يوم قال بأن المثقفين هم أقدر الناس على الخيانة لأنهم أقدر الناس على تبريرها.
فهؤلاء أهل شعارات المؤامرة الصهيونية يعيدون نفس سيرة بني إسرائيل وتاريخهم يوم كانوا يقتلون كل نبي يرشدهم إلى الصواب فيتهمونه بتنفيذ مؤامرة.
وإذا جاز لنا محاكاة التاريخ للبحث عن نموذج من سيرة بني إسرائيل فإننا يمكن أن نجد ذلك النموذج في قصة أرميا النبي قبل مايقارب ــ 2600 ــ عاماً من الزمن، حين ثار ضد ظلم وفساد الكهنة والأحبار من بني إسرائيل فقالوا إنه خائن وعميل، واتهموا النبي الثائر أنه عميل للملك البابلي نبوخذ نصر فوضعوا هذا النبي في الجب ليموت عطشاً وجوعاً، لأنه خائن ومندس وعميل للكلدانيين في بابل!
قابلوه بالعصيان والتمرد والتكذيب، ثم ألقوا القبض عليه وسجنوه، وذلك في عهد ملكهم صدقيا، وبعد أن مكث في السجن عشرة سنوات، أرسل الله عليهم نبوخذ نصر وجحافل عساكره، فنزل في أراضيهم، وبطش بهم، وقتل منهم جمعاً غفيراً، وخرب ديارهم، وسبى الآلاف منهم، ثم أمر بهدم بيتهم المقدس المزعوم، وأسر صدقيا الملك، وأصدر أمراً بإلقاء القاذورات والجيف في معابدهم.
ولما علم نبوخذ نصر بأمر أرميا في أحد سجون بني إسرائيل ، وكونه من الأنبياء الذين أرسلهم الله إليهم ليرشدهم ويهديهم طريق الحق والصواب، ولكنهم كذبوه وعذبوه ثم حبسوه، فأمر بإطلاق سراحه من السجن، وأحضره لديه وقال له: أكنت تحذّر قومك ما أصابهم؟
فقال أرميا: نعم، فان الله أرسلني إليهم فكذبوني، قال نبوخذ نصر: كذبوك وضربوك وسجنوك؟ قال: نعم.
قال نبوخذ نصر: بئس القوم قوم كذبوا نبيهم، وكذبوا رسالة ربهم، وأوصى به خيراً.
( التوراة اليهودية :سفر أرميا :الإصحاح 39: الآيات 11-14).
وإلى اليوم لازال هؤلاء السفهاء يرتلون مزامير المؤامرة الصهيونية رغم أنهم يشاهدون جماهير اليهود الفلاشا تهتف في شوارع تل أبيب ضد نتنياهو، فإنهم ينبحون بموشحات المؤامرة الصهيونية، ورغم أنهم يرون جماهير باريس من السترات الصفراء يحطمون تمثال نابليون فأنهم يصرّون على سفاهة القول في الحديث عن المؤامرة، لأن الله أعمى بصيرتهم وعيونهم فلم يعودوا قادرين على رؤية الناس تهتف في شوارع باريس وبرشلونة والجزائر، والناس تقتل في سوريا والعراق ولبنان وليبيا واليمن، لا يبصرون شعب الجزائر يهتف منذ عام ولا يرون ما يحصل من احتجاجات في بوليفيا في أمريكا اللاتينية، وفي هونغ كونغ الصينية، ولا مسيرات الاحتجاج في المكسيك وصولاً إلى زامبيا وإثيوبيا في أفريقيا، وإلى قم وطهران حتى براغ في التشيك في أوربا الشرقية، حيث خرجت مسيرات مليونية تطالب بخلع الحكومة، وفي تشيلي تفترش الجماهير منذ عشرين يوماً شوارع العاصمة سانتياغو وبقية أنحاء البلاد يصرخون من الجوع ويطالبون بإسقاط الحكومة ودستورها، فهذه الجموع من أقصى الأرض إلى أقصاها، كلهم خونة ينفذون مؤامرة صهيونية، وهذه قائمة نقلتها للتو عن الدول التي تشهد مظاهرات هذه اللحظة.
وتشمل:
اليونان، فرنسا، التشيك، إسبانيا، هولندا في أوربا، هونغ كونغ، إيران، جورجيا في آسيا، غينيا، مالي في أفريقيا، تشيلي، بوليفيا، فنزويلا في أمريكا اللاتينية .
كل هؤلاء الناس هم خونة وينفذون مؤامرة صهيونية إمبريالية ماسونية في نظر قطيع المثقفين.
وهنا وجدت مناسباً أن أعيد ما كتبته عشية انطلاق الثورة السورية يوم كتبت منشوراً بعنوان: (الثورات العربية بين الحتمية التاريخية والمؤامرة الصهيونية.. قراءة في علم اجتماع الثورة!).
■ حيث قلت فيه :
أكاد أجزم أن القطيع ممن يدعون أن الثورات العربية هي نتيجة لمؤامرة صهيونية، فيسقطوا عمداً عوامل علم الاجتماع والتاريخ وحركة الكون والطبيعة وسنن التطور الاجتماعي والكوني، هؤلاء ليسوا شبيحة قلم رخيص يشعرون بعزلتهم عن الجماهير فحسب، ولكنهم لا يحملون أدنى إيمان بسنن الكون التي رسمها الله تعالى بقوله:
(وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).
فحين يصبح أهل الفكر أسرى المنظومة الفكرية النمطية ويسترسل البعض الآخر في تداول أحاديث المقاهي، فإن الأمة تدخل في الضلال، حيث تعيدني بعض الكتابات إلى استذكار ما كنا نقرأه عن حال المجتمعات البدائية، التي كانت تسود فيها رؤى وأوهام أن قوى خفية هي التي تحرّك الكون، فذهبوا إلى عبادة القمر وبعضهم عبد الشمس وآخرون عبدوا النجوم أو الحيوانات، هكذا نحن اليوم مع الأسف، نبحث عن قوى خفيه تدير حياتنا فلا نجد غير المؤامرة والصهيونية والماسونية.
■ يتساءل البعض:
هل أنت مؤمن بنظرية المؤامرة؟
أقول وبلا تردد نعم أنا أعتقد بنظرية المؤامرة، بل إنني على يقين بأن هناك مؤامرات تحيط بالأمة ومشروعها الحضاري ووجودها، ولكن يبقى الاستفهام قائماً: ماذا قبل الصهيونية؟ أمريكا تتآمر، نعم، ولكن كيف كان حالنا قبل اكتشاف أمريكا؟
قبل اكتشاف أمريكا وقبل هرتزل والصهيونية، من الذي كان يتآمر علينا؟
إذن هي قوانين تحكم حركة المجتمع ولكننا عاجزين عن إدراك كنهها، واعلموا أن العجز عن استيعاب تلك القوانين لا يلغي وجودها.
إن المشكلة أيها السادة تكمن في عوامل موضوعية وعوامل ذاتية تحيط بالمجتمع وتحكم حركته، فعلينا إدراك قوانين حركة المجتمع وتطوره.
فكما للكون قوانينه كذلك للمجتمع البشري قوانين تتحكم في حركته، وان الظواهر التي يخوننا العقل في اكتشاف قوانينها لا تعني أنها عفوية او أن الفوضى تحكمها.
إن غياب المنهج العلمي في البحث، جعل النخب الثقافية الطفيلية وفقهاء التسول من المثقفين تأخذهم المفاجأة من قيام ظاهرة الحراك الشعبي العربي.
وللتعبير عن قصورهم وفشلهم الذريع تهامسوا جهراً وعلانية بأن يداً خفية هي من تدير السياسة والكون وحركة المجتمع، وبالطبع فإن الصهيونية والماسونية حاضرة لكي يلبسوها تهمة المؤامرة، فيتحرروا من عقدة الذنب التي تلاحقهم وتكشف عن غباء بعضهم وخيانة البعض الآخر.
إن الثابت علمياً أن المجتمع البشري يخضع لقوانين الحركة الدائمة، وأن في المجتمع عناصر تتجاذب أو تتنافر وتتفاعل مع بعضها الآخر بطريقة تؤدي إلى التأثير المتبادل الذي ينتج عنه التغيير المتواصل.
ولم يغفل القرآن الكريم هذه الحقيقة العلمية، فتم تناولها في إطار ما يسمى سنة التدافع
( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ )
(البقرة: من الآية251 )
أي أن الله سبحانه وتعالى جعل من التدافع شرطاً أساسياً لدوام الحياة، فجعل سبحانه التناقض بين الأضداد التي تستوجبها سنة التدافع البشري.
إن ما ذكرناه يقود إلى ضرورة إدراك عامل آخر على مستوى عالي من الأهمية، ألا وهو عامل الزمن، فالظواهر الاجتماعية تحمل بعداً زمنياً في إطار سياق تاريخي، وأن التاريخ يعمل في اتجاه تصاعدي حتمي، وإن توفر بعض الشروط ونضجها ستؤدي إلى تسريع التفاعل مما ينتج عنه انجاز هذا التغيير.
إن القول بأن الثورات هي نتيجة مؤامرة ما هو إلا تعبير على عدم إدراك النخب لشروط الثورة وعدم معرفتهم بقوانين حركة الاجتماع البشري، أو أنهم لا يحملون الإيمان العميق الصادق بحتمية الثورة وشرعيتها.
هؤلاء اليوم يعيشون معركتهم الأخيرة، ولذلك فقد أصابهم جنون البقر وإنفلونزا الخنازير فصاروا يكشفون عن عريهم الأخلاقي الذي كانوا يسوقونه تحت ستار الشعارات على مدى مئة عام من الخيانة.
أمتي لا تحتاج إلى قطعان سفالة من منظرين ولا إلى مزيد من الدعاة الساقطين من وعّاظ السلاطين بل تحتاج إلى مؤمنين.
واليوم وبعد هذه السطور فإنني لازلت على يقين أن اللعبة انتهت والتسونامي قادم لا محالة!
قلت منذ سنين أن التسونامي قادم لأن الثوابت وكل المرجعيات عبر العالم فقدت شرعيتها الأخلاقية، فلم تعد هناك أي مرجعية دينية أو نخب ثقافية أو حزبية أو فكرية تحمل شرعية في عيون الناس عبر القارات، فكل المرجعيات قد سقطت بعدما اكتشفت الناس أن الطبقات الحاكمة ومافيا السوق ورجال الدين ونخب المثقفين أصبحوا يستثمرون في عقولهم، وأنهم يكتشفوا يوماً بعد يوم أن هناك مافيا تحت الأرض تدير اللعبة وأن العمائم والقساوسة والمثقفين ورجال السياسة والأحزاب والعسكر ما هم سوى واجهات.
سقطت كل المرجعيات وفقدت جاذبيتها في عيون الناس ولذلك تجد مظاهرات السترات الصفراء في شوارع باريس الذين حطموا تمثال نابليون، هم نفسهم متظاهرو العراق الذين رجموا تمثال الخميني بالأحذية، ومن يدري قد تجدون هذا المشهد في شوارع كاليفورنيا في يوم ما، أو شوارع برشلونة لأن الناس عبر العالم فقدت اليقين وأسقطت كل النخب، ولم تعد الشعارات والثقافات والفتاوى ولا مواعظ البابا والقساوسة والمعممين، ولا مقالات المثقفين ولا معلّقات الشعراء، ولا لوحات الرسامين، تكفي لمحاكاة عقول الناس التي كفرت بكل المرجعيات التي كانت تعتبر مقدسة في يوم من الأيام.
الدكتور حذيفة المشهداني
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!