-
أولى الألعاب البهلوانية بدأت من سوريا إلى العالم قبل 4000 عام
تمتع سكان المدن القديمة في الشرق الأوسط بحياة اجتماعية واقتصادية نابضة بالحياة تمركزت حول المؤسسات الملحقة بالقصور والمعابد، وبدعم من المجتمعات الزراعية والرعوية المحيطة. وهو ما جعل مراكز هذه المدن مقصداً للناس والبضائع وحتى الأفكار، فخلق بذلك مجالاً ثقافياً ساهم في الحفاظ على الهويات والعادات المحلية القوية.
مهنة "البهلوان"، أو ما كان معروفاً حينها باسم huppu، هي إحدى هذه العادات التي نشأت في سوريا وكانت ملحقة بالديوان الملكي.
أول ذكر معروف لـ Huppu يمكن ملاحظته في الوثائق الإدارية التي عثر عليها في مدينة إيبلا (تل مرديخ) في سوريا، والتي يعود تاريخها إلى عام 2320 قبل الميلاد.
يمكن جمع تفاصيل هذه المهنة من خلال بعض المعلومات الواردة في الأرشيف الملكي المؤلف من نحو 20 ألف لوح تعود لتاريخ (1771-1764 قبل الميلاد)، وهي محفوظة في مدينة ماري المجاورة (تل الحريري) على نهر الفرات.
كشفت سجلات المحاسبة والخطابات الشخصية النقاب عن مجموعات أو فرق من الـ huppû الذين كانوا يقدمون عروضهم مرات عدة في الشهر لمناسبات مخصصة للاحتفال بعودة الملك الآمنة إلى المدنية مثلاً، أو لوصول الزوار الخاصين أو حتى المناسبات والأعياد الدينية، كالمهرجان المخصص للإله عشتار، حيث تضمن برنامجه الاحتفالي عروضاً بهلوانية لفرق الـ "Huppu"، إلى جانب المصارعين والنادبات اللاتي كُن يُغنين باللغة السومرية القديمة مصحوبة بالطبول.
وهو ما يشير إلى المكانة التي حظي بها "البهلوانيون" والإعجاب الكبير بما كانوا يقدمونه من عروض، مما ساهم في قربهم من الملك الذي ضمهم بدوره إلى حاشيته ومرافقيه الأساسيين الذين كانوا يرافقونه خلال رحلاته إلى الممالك الأخرى بهدف الترفيه عنه.
مهنة الـ huppû:
أشارت الوثائق المكتشفة إلى استخدام صفتين أساسيتين لوصف الأداء أو العرض التي كان البهلوان يقدمها:
الأولى هي mēlulu، وكانت تستخدم بمعنى الحركات "الاستعراضية" بمختلف أشكالها، و"الأداء التمثيلي" بالإضافة إلى "الحركات القتالية".
فيما كانت الصفة الثانية nabalkutu، تستخدم لوصف حركات متميزة أكثر بالحيوية والديناميكية، كـ "تخطي حاجز ما"، "التمرد على السلطة"، "الشقلبة"، "تغيير الجوانب"، "الشقلبة العكسية" و"التدحرج".
فيمكننا، من خلال هذه الصفات، تخيل العروض التي كانت تقدمها فرق الـ huppu والتي مزجوا فيها الحركات البهلوانية والرقص، بأسلوب استطاعوا به المواءمة بين القوة البدنية، من جهة، والتحكم بالتعبير الجسدي لكسب الجمهور، من جهة ثانية.
وإنما، يبدو أن هذه المهنة كانت خاصة بالذكور فقط دون الإناث، فلم ترد كلمة Huppu بصيغة أنثوية إطلاقاً، كما لم يتم العثور كذلك على أي اسم أنثوي يمارس هذه المهمة. ففي الوقت الذي كانت فيه المعاهد المتخصصة تستقبل المواهب الموسيقية والغنائية الواعدة "من الجنسين"، كان يتم أيضاً إرسال المتدربين الشباب "الذكور"، إلى أكاديميات متخصصة لتعلم وإتقان "البهلوانية" من خلال سنوات من التدريبات المضنية والشاقة.
أما بالنسبة لهذه المعاهد، فمن خلال الخطابات والمراسلات المحفوظة بين النخبة المتعلمة، يبدو أن الانقسام بين المعاهد الفنية والأكاديميات الرياضية كان يعكس انقساماً بين العقل والجسد في القيم الثقافية. إذ يمكن ملاحظة التوتر بين المدارس في رسالة كتبها رئيس الفرقة الملكية Piradi، إلى الملك "زميري ليم"، بعد أن وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه.
في الرسالة المؤرخة بنحو عام 1763 قبل الميلاد، يناشد "بيرادي" بدايةً الحكم والرأي السديد للملك (سيدي يعرف متى أكذب ومتى لا أكون كذلك)، كما يُعبّر Piradi عن حزنه لأن ما يقدمه من فن، بالرغم من صعوبته، لا يحظى بالتقدير الكافي (شكوى تم التحقق منها إلى حد ما من خلال التفاوت في الأجور بين الموسيقيين والبهلوانيين في الحسابات الملكية)، بالإضافة إلى الازدراء الذي كان يتعرض له من الموسيقيين. من قلم أحد الموسيقيين: (إذا حنثت بيمين، فيمكنهم مطاردتي وجعلي بهلواناً).
مجتمعات البهلوان:
يعيش الأفراد المنتمون لـ huppû خارج القصر مع عائلاتهم على الأرجح، مع أن البعض لم يكن يتمتع بحياة سعيدة إجمالاً، بناءً على ما ورد في خطاب Piradi، حول امرأة فرّت لتوها من منزله وقد سلبته كل مدخراته وماله. هذا بالإضافة إلى أن توظيفهم لم يكن يتم بطريقة رسمية، فكان الفرد يحصل على مستحقاته المالية بعد انتهاء كل عرض على شكل "شيكل من الفضة".
تشير قائمة مدفوعات القصر إلى مستوى معيشي مقبول للبهلوان عندما كانوا يقدمون عروضاً جوّالة في البلدات المجاورة، فكان البهلوان العادي يحصل على شيكل واحد، والثاني على شيكلين اثنين بشكل عام؛ فيما كانت حصة القائد خمسة شيكلات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الشيكل الواحد كان يشتري 300 كغ من الشعير حينها.
كما تمتع قائد الفرقة بمكانة مميزة ومختلفة عن الآخرين، فكان Pirardi يمتلك صلاحية الوصول المباشر إلى أذن الملك، وهو ما مكّنه من الحصول على الهدايا الباهظة بما في ذلك الملابس "العالية الجودة" والأسلحة الفضية والنبيذ.
في المقابل، لم يكن المنصب خالياً من الضغط والتوتر ضمن بيئة تنافسية مع الفرق الأخرى، حيث كانت فرقة البهلوانيين من مدينة "ماري" تواجه تهديدات دائمة من المنافسة الخارجية، وخاصة المنافسين من مدرسة huppû الشهيرة في مدينة "حلب" المجاورة، هذا إلى جانب قلة عدد العروض المقدمة وتأثيرها على الأعضاء، بالإضافة إلى التهديد بتسريحهم مع وصول كل حاكم جديد يبدأ منصبه بخفض التمويل المقدّم للفنون.
إرث دائم:
حافظت مهنة البهلوان على نفسها تحت نفس الاسم -وربما بالشكل ذاته تقريباً- لأكثر من ألف عام. هذا ما يشهد به عقد قانوني موقع من قبل مدرب خاص يدعى Nanā-uzelli، يعود إلى عام 628 قبل الميلاد، في مدينة "بورسيبا"، على بعد حوالي 450 كيلومتراً من "ماري"، بالقرب من مدينة "بابل" العراقية، والذي ظلّ يدرّب ابن الرجل مقابل شيكلين اثنين من الفضة، لمدة عامين وخمسة أشهر.
أدلة أخرى بالإمكان ملاحظتها، والتي تؤكد الانتشار الواسع للفرق البهلوانية من موطنها الأصلي في سوريا عبر الشرق الأوسط، كمشهد المأدبة الملكية المحفورة داخل وعاء برونزي عيلامي من جنوب غرب "إيران" حوالي 600 قبل الميلاد.
يُعدّ هذا الإناء أحد أقدم الصور من نوعها، والتي تعرض أداء مجموعة من الموسيقيين إلى جانب عدد من البهلوانيين وهم متكئون، متوازنون في سيرهم على أيديهم وهم فوق ركيزة متينة.
ليفانت - أغيد شيخو
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!